الموت لا يستأذن، يدخل حياتنا فجأة، يغيّر ملامح الأيام، ويقلب الطمأنينة إلى أسئلة لا تُجاب. ولكن أصعب ما في الموت، ليس لحظة وقوعه، بل ما يتركه وراءه. وماذا إن كان الفقيد هو والد أطفالك؟
في لحظة واحدة، يتحوّل وجه الحياة أمامك، لا لأنك فقدت شريكك فحسب، بل لأنك أصبحت الآن الوحيدة التي يجب أن تحتوي هذا الغياب، وأن تفسّره لهم، أن تترجمي لهم معنى النهاية في عمر لم يعرف بعد كيف تبدأ الحكايات.
الأطفال لا يعرفون كيف يُعبّرون عن الحزن، لكنهم يشعرون به بعمق لا تبلغه الكلمات. قد يصمتون، وقد يسألون كثيرًا. وقد يبدو عليهم الهدوء، بينما العاصفة تدور داخلهم. أنت الآن لست فقط الأم، بل القلب النابض بكل ما تبقّى لهم من الأمان، والسقف الذي يجب ألا يسقط رغم كل ما يعتمل في داخلك من وجع وارتباك وخوف على المستقبل.
قد تجدين نفسك مشتتة بين حزنك الخاص، وبين محاولة فهم ما يحتاجه أطفالك. هل تبكين أمامهم؟ هل تُخفي الألم؟ هل تشرحين أم تُسكتين الأسئلة؟
في هذه اللحظة الحرجة، لا تبحثي عن الكمال. لا أحد يولد مستعدًا لمواجهة هذا النوع من الفقد. لكن الفارق الحقيقي يكمن في أن تكوني صادقة، حنونة، حاضرة، لا تعرفين كل الأجوبة، لكنك تقفين بجانبهم، خطوة بخطوة، في طريق لا يمكن عبوره إلا معًا.
في هذا المقال، سنأخذك بلطف نحو الطريقة السليمة لاحتواء طفلك بعد فقد والده. لا نصائح جاهزة، بل فهم إنساني عميق لما يمر به صغيرك، ولما تحتاجينه أنتِ أيضًا لتكملي الطريق بثبات، حتى وإن كان في قلبك ألم لا يُرى.
حين يرحل الأب، قد تنهال الأسئلة في رأس الأم: هل أخبرهم فورًا؟ هل أُخفي الأمر؟ كيف أشرح لطفل لم يتجاوز بعد حدود البراءة أن والده لن يعود أبدًا؟ في هذه اللحظات، لا يوجد دليل إرشادي واحد يناسب الجميع، لكن هناك فهم عميق يمكن أن يوجّهك إلى الطريقة الأصح، التي تحترم ألم الطفل دون أن تزرع فيه خوفًا من الحياة.
عندما يبلغك خبر الوفاة، قد تميلين إلى تأجيل الحديث مع الأطفال، بدافع الحماية. لكن الصمت لا يحمي، بل يربك. يحتاج الطفل إلى الحقيقة، ولكن بجرعة تناسب عمره ودرجة وعيه. اجلسي معه في مكان آمن وهادئ، وانظري في عينيه، وأخبريه أن والده قد توفي. استخدمي كلمات بسيطة، وتجنّبي العبارات المضللة مثل "سافر" أو "ذهب إلى مكان بعيد"، لأن الطفل في داخله سيبقى ينتظر عودته.
كثير من الأمهات يبدأن بمحاولة تهدئة الطفل فورًا، أو إقناعه بأن "كل شيء سيكون على ما يرام". لكن الطفل لا يريد حلولًا سريعة، بل يحتاج إذنًا بالبكاء. قولي له: "أنا أعلم أن هذا مؤلم"، أو "أعرف أنك تشتاق إليه"، وشاركيه مشاعرك الخاصة أيضًا. مشاركتك لحزنك لا تضعفك أمامه، بل تريه أنك أيضًا تتألمين، وهذا يمنحه شعورًا بالشرعية في حزنه.
"أين ذهب بابا؟ هل كان يتألم؟ هل سأموت أنا أيضًا؟" هذه الأسئلة ليست دليلًا على قسوة أو قلة وعي، بل هي محاولة لفهم ما لا يمكن فهمه. كوني صادقة، لكن مطمئنة. يمكن أن تقولي مثلًا: "بابا مات لأن جسده لم يعد قادرًا على الاستمرار، لكنه كان يحبك كثيرًا"، أو "الموت لا يحدث لأي شخص فقط لأنه مريض أو كبير، لكنه ليس شيئًا يحدث لكل الناس بسرعة".
في الأيام الأولى، قد يرفض الطفل النوم أو الأكل أو الذهاب إلى المدرسة. لا بأس ببعض الفوضى المؤقتة، لكن أعيدي إحياء الروتين اليومي تدريجيًا. الروتين يمنح الطفل شعورًا بالاستقرار حين يشعر أن العالم من حوله يتفكك. لا تُجبريه، بل قودي خطواته بلطف، وذكّريه أن الحياة لا تزال تمضي، وأنك إلى جانبه دائمًا.
الموت لا يلغي الذاكرة، ولا يجب أن يُبعد صورة الأب عن تفاصيل الحياة. علّقي صورته، احكي له عن مواقف مضحكة حصلت معه، أو عبارات لطيفة كان يقولها. اجعلي الطفل يشعر أن حب والده لم يمت، وأنه سيظل حاضرًا في قلبه. هذه الخطوة تُسهم في بناء توازن نفسي طويل الأمد لدى الطفل.
لا تجعلي الحزن عزلة. اسمحي له باللعب، بالضحك، بزيارة أصدقائه، ولا تشعري بالذنب إن رأيتِ ابتسامته. الطفل لا يخون الحزن إن ضحك، بل يختبر الحياة كما هي: مزيج من الوجع والفرح.
أنتِ الركيزة الآن. حزنك مشروع، وألمك حقيقي، لكن تماسكك ضروري. الجئي لدعم نفسي إن احتجتِ، سواء من الأصدقاء أو الأخصائيين. تربية طفل فقد والده مهمة كبيرة، لكنها ليست مستحيلة حين تكونين صادقة مع نفسك، محبة، ومتقبّلة للتغيّر.
وبالنهاية، هي الحياة تحمل دروسا متنوعة لجميع البشر، وهو ما يجب أن تتقبليه أولا ثم تزرعيه في قلب أطفالك، ليتعلموا التقبل الأكثر والتعايش مع ما يختاره القدر، مع السماح لكل المشاعر بأن تُعاش.