قد لا تُدرّس في كتب التربية، ولا تُدرج ضمن جداول المهام اليومية، لكنها قد تكون أعظم إنجاز تُحققينه في رحلتك كأم: أن تكوني الملاذ الذي يعود إليه طفلك حين تضيق به الحياة، أن تكوني صديقته المفضلة.
ليست صداقة عابرة تُبنى على التساهل، ولا علاقة سطحية تفتقر إلى التوجيه، بل رابطة استثنائية تُصاغ من الإصغاء، والثقة، والقدرة على أن تكوني قوية ولطيفة في آنٍ معًا.
في زمن تمتلئ فيه حياة الطفل بالمؤثرات والضغوط، تصبح الأم الصديقة هي الجسر الأكثر أمانًا لعبوره نحو النضج والاستقلال، دون أن يفقد توازنه أو ذاته.
كثيرًا ما تسمع الأمهات عبارة "كوني أمًا لا صديقة"، وكأن الصداقة مع الأبناء تنتقص من السلطة أو تضعف من التربية. لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا وتوازنًا مما تبدو عليه في هذه المقولة الشائعة.
فأن تكوني الصديقة المفضلة لأطفالك لا يعني التنازل عن دورك كأم، بل هو امتداد ذكي له، حيث يندمج الحنان مع الحزم، وتلتقي الثقة بالتوجيه، وتنمو العلاقة لتكون أكثر عمقًا وأمانًا.
حين تكونين صديقة لأطفالك، لا يعني ذلك أنك تتخلين عن دورك التربوي، بل يعني أنك تقفين على مسافة قريبة من عالمهم. تفهمين ما يحبونه، ما يخيفهم، ما يحلمون به، ومن يزعجهم. هذا القرب العاطفي يخلق مساحة آمنة تسمح للطفل بالتعبير عن نفسه دون خوف من العقاب أو السخرية، وهي بيئة مثالية للنمو النفسي الصحي.
كم مرة نسمع أن الطفل لا يستجيب للتوجيهات أو يرفض الاستماع؟ في كثير من الأحيان، يكون السبب هو غياب التواصل الحقيقي. أما عندما تكون الأم بمثابة الصديقة، فإن صوتها يصبح مألوفًا ومطمئنًا. لا حاجة للصراخ أو التهديد، بل يكفي التفاهم. فالصداقة تولّد الاحترام المتبادل، وتفتح باب الحوار.
استرجعي مع من كنت تشاركين أسرارك الصغيرة، وهل كانت تنصحك أم تكتفي بالاستماع؟ عندما تعيشين هذا الدور مع طفلك، ستمنحينه نفس الشعور بالدعم غير المشروط. ستصبحين أول من يطرق بابه حين يُربك قلبه سؤال، أو تمر به لحظة ضعف، أو يشعر بخيبة أمل. وبدل أن يبحث عن الأجوبة في الخارج، سيلجأ إليك، لأنه يثق أنك تفهمينه دون أحكام.
الصداقة لا تعني غياب القواعد، ولا تستوجب التهاون في السلوك. بل على العكس، الطفل يحتاج إلى حدود واضحة ليشعر بالأمان. الصديقة الجيدة تعرف متى تستمع، ومتى تتدخل، ومتى تضع حدًا دون أن تجرح. هذه المهارة في إدارة العلاقة لا تُبنى في يوم، لكنها تستحق كل لحظة من المحاولة.
الأطفال الذين تربطهم بأمهاتهم علاقة صداقة صحية يكونون أكثر ثقة بأنفسهم، أقل عرضة للكتمان والانعزال، ويتميزون بذكاء عاطفي أعلى. كما يكونون أكثر قدرة على بناء علاقات سوية في المستقبل، لأنهم عرفوا الحب والدعم دون شروط، منذ الصغر.
عندما تتحول الأم إلى "رفيقة درب" دون حواجز، وتتنازل عن دورها في التوجيه والمراقبة، قد تضعف هيبة العلاقة. الصداقة لا تعني أن توافقي على كل شيء، ولا أن ترفعي عن طفلك مسؤولياته، بل أن تسانديه وهو يتحملها. حين تتوقفين عن قول "لا" خوفًا من خسارته، تبدأ العلاقة في الانزلاق من الرعاية إلى التراخي.
أن تكوني الصديقة المفضلة لطفلك لا يعني أن تذوبي في شخصيته، بل أن تكوني تلك المرأة التي يُحب العودة إليها، يحكي لها ويثق أنها لن تفضحه، ولن تسخر منه، ولن تقمعه. امرأة قادرة على الحب والتفهم، كما هي قادرة على التربية والتوجيه. تلك هي الأم التي تترك في قلب طفلها أثرًا لا يُنسى.