في كتابه "أدب النسيان"، الذي تُرجم إلى العربية عن منشورات وسم، يتناول الكاتب الأمريكي لويس هايد العلاقة المعقدة بين الذاكرة والنسيان، ويكشف عن دورهما في تشكيل الوعي البشري.
يتجاوز هايد المفهوم التقليدي للنسيان كغياب أو فقدان، ليعيد النظر فيه كعملية حيوية تؤثر في نسيج الوجود الإنساني، بحيث تصبح ذاكرة الفرد جزءًا من نفسه، فيما يترك ما هو خلفه ليشكل كيانه عبر الزمن.
في هذا الكتاب، يقدم هايد رؤية جديدة للنسيان، معتبرًا إياه ليس مجرد محو للمعلومات، بل عملية ذات جوانب مزدوجة تحمل في طياتها مفهومي المغفرة والانتقام معًا. يُعد النسيان في هذا السياق جسرًا يتيح للإنسان المضي قدمًا دون محو تام للماضي.
ويظل الماضي حاضرًا بشكل خفي، يتسلل إلى الذاكرة والإبداع، ليصبح جزءًا من الإنسان الذي يعيش بين التذكر والنسيان.
يطرح هايد مفهومًا مثيرًا للزمن، إذ يرى أن الزمن يتشكل فقط من خلال تفاعل الذاكرة والنسيان، كأداتين حيويتين لفهم الماضي واستشراف المستقبل.
وفي هذا السياق، يصبح الزمن ليس مجرد فترة عابرة، بل ساحة تتلاقى فيها التجارب الشخصية والجماعية، ويظل فيها الإنسان محاصرًا بين ما يتذكره وما ينساه.
يغوص هايد في عالم الأساطير ليُظهر كيف تناولت العديد من الثقافات مفهوم النسيان. في الأسطورة الصينية عن العجوز "منغ"، تُقدّم "حساء النسيان" للأرواح، ما يعيد لهم بداية جديدة، بعيدًا عن ماضيهم.
ومع ذلك، يظهر الاستثناء في حالة الأطفال الذين يولدون وهم يحملون بصمات من حياتهم السابقة، ما يُظهر أن الذاكرة يمكن أن تتجاوز النسيان.
كما يشير هايد إلى الأساطير اليونانية التي تتحدث عن "بركة النسيان"، التي تمنح الإنسان قدرة على رؤية المستقبل بشرط أن يترك وراءه ماضيه.
يتجاوز هايد النطاق الفردي ليستعرض النسيان في السياقات التاريخية والسياسية. يروي قصة جندي أمريكي من أصول أفريقية، عجز عن نسيان قتل أخيه على يد جماعة عنصرية. فاختار إحياء الذاكرة الجماعية كسبيل لتحقيق العدالة بدلا من الانتقام.
كما يتناول محاولة السلطات طمس ذكرى مجزرة ضد الهنود الحمر في القرن التاسع عشر، قبل أن تعود الذاكرة لتفرض نفسها من خلال نصب تذكاري يعيد سرد الحكاية.
في مجال الإبداع، يعتبر هايد النسيان عنصرًا أساسيًا في العملية الإبداعية. يشير إلى مارسيل بروست، الذي استلهم من "الذاكرة غير الإرادية" في روايته "البحث عن الزمن المفقود" لاستعادة الذكريات بصورة انتقائية.
كما يشير إلى أن الخسارات وليس الانتصارات هي التي تترسخ في الوعي، تاركة وراءها فصولًا مفتوحة تستمر في التردد بين النسيان والتذكر.
في خاتمة الكتاب، يربط هايد النسيان بدورة الحياة الطبيعية، ويقارنه بأسراب الطيور المهاجرة التي تعبر السماء دون ترك أثر، لكنها تجد طريقها دائمًا إلى مكانها المناسب. يدعو هايد القارئ إلى رؤية النسيان كعملية ديناميكية، تعيد تشكيل الذاكرة، وتحدد علاقتنا بالماضي والمستقبل ككل، في نسيج متكامل من الفهم والوعي.
وأخيراً، من خلال "أدب النسيان"، يُظهر لويس هايد أن النسيان ليس مجرد غياب للماضي، بل هو جزء لا يتجزأ من الحياة البشرية، يؤثر في الإنسان وفي مجتمعاته، ويُعيد تشكيل فهمنا للزمن والذاكرة والإبداع.