في عصرنا الحديث، أصبحت الإنتاجية السامة سمة مشتركة في ثقافة العمل. هذه الظاهرة تعني الاندفاع المستمر نحو الإنجاز على حساب الصحة النفسية والجسدية والعلاقات الشخصية وجودة الحياة بشكل عام.
على الرغم من أن الإنتاجية تُعتبر قيمة محمودة في العمل، إلا أن التمادي في هذه النزعة قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على الأفراد والمجتمعات.
تنشأ هذه الظاهرة من عوامل نفسية واجتماعية معقدة، حيث تُربط القيمة الذاتية بتحقيق الإنجازات.
هذه العقلية تُعززها ثقافات العمل التي تعتبر الاستراحة علامة على الكسل، إضافة إلى الضغوط التي تفرضها وسائل التواصل الاجتماعي من خلال مقارنات اجتماعية تؤثر سلبا على احترام الذات وتزيد احتمالية الاكتئاب.
تفاقمت هذه الظاهرة خلال جائحة كورونا، حيث استخدم البعض العمل كوسيلة للشعور بالسيطرة وسط حالة الشك السائدة. كما أن تقنيات الذكاء الاصطناعي زادت من تعقيد المفهوم، حيث بات من الصعب قياس الإنتاجية في زمن تُنجز فيه المهام بسرعة فائقة.
تشير التقارير إلى أن العمل المفرط لا يؤدي بالضرورة إلى زيادة الإنتاجية. على العكس، فإن الإفراط في الاجتماعات وغياب الحدود بين العمل والحياة الشخصية يؤديان إلى تراجع الأداء وزيادة الإرهاق. دراسة حديثة أوضحت أن الأشخاص الذين يشعرون بالالتزام بالعمل بعد ساعات الدوام سجلوا نسبا أقل من الإنتاجية، وأعلى من مستويات التوتر والإجهاد.
تتحمل النساء عبئا إضافيا يتمثل في الجمع بين العمل والمسؤوليات المنزلية؛ ما يزيد معدلات الإرهاق. وتشير الإحصاءات إلى أن النساء العاملات يواجهن صعوبة أكبر في أخذ استراحات أو إجازات؛ ما يؤثر على تقدمهن المهني ومشاركتهن في المناصب القيادية.
للقادة دور محوري في كسر دائرة الإنتاجية السامة. يتعين عليهم أن يكونوا قدوة من خلال تبني عادات عمل صحية مثل الالتزام بالإجازات وتحديد حدود واضحة بين العمل والحياة الشخصية. تبني "الإجازات الجهرية"، حيث يشارك القادة تجاربهم الإيجابية مع الإجازات، يمكن أن يسهم في تقليل وصمة الراحة بين الموظفين.
من التجارب الناجحة لتخفيف عبء العمل، قامت شركات مثل "شوبفاي" و"أسانا" بإجراء مراجعات شاملة للاجتماعات؛ ما أدى إلى توفير آلاف الساعات وزيادة الكفاءة. تتضمن هذه المراجعات إلغاء الاجتماعات غير الضرورية وتحديد أيام خالية منها؛ ما يسمح للموظفين بالتركيز على العمل الحقيقي بدلا من الانشغال بالتنسيق المفرط.
تحقيق توازن صحي بين العمل والحياة يتطلب تغييرا جذريا في ثقافة العمل، حيث يُعاد تعريف النجاح بناءً على جودة الإنجازات وليس ساعات العمل. كما ينبغي دعم الموظفين من خلال بيئات عمل تتيح الراحة والمرونة، والمساهمة في تعزيز الصحة العامة والإنتاجية.