في حياتنا اليومية، تمرّ بنا مواقف لا تُحصى نلجأ فيها إلى كلمات لطيفة، أو ابتسامات مصطنعة، أو عبارات نُطلقها مجاملة لا للتعبير عن الحقيقة.
نُجامِل بدافع التهذيب، حفاظًا على مشاعر الآخرين، أو اتقاء لصدام لا نحتاجه.
لكن في مكانٍ ما، بين اللطافة والصدق، ينشأ توتر داخلي لا يُستهان به، ويطرح سؤالًا مؤرقًا: هل نحن لطفاء فعلا أم مجرّد مجاملين غير صادقين؟
في الثقافة العربية، تُعدّ المجاملة جزءًا من الذوق العام. تربّينا على أن نقول "تسلم إيدك" حتى وإن لم يكن الطعام على ذوقنا، وعلى أن نصف فستانًا بأنه "جميل جدًا" رغم تحفظنا على اختياره.
المجاملة هنا ليست كذبًا بمفهومه الحاد، بل وسيلة للتواصل بسلاسة وتجنّب الإحراج. ولكن متى تتحول من لُطف اجتماعي إلى تزوير للعلاقة أو حتى تزوير للذات؟
هناك أسباب عديدة تدفعنا للمجاملة:
المشكلة تبدأ حين تتحول المجاملة إلى عادة تلقائية، نخفي بها آراءنا الحقيقية بشكل دائم. حين نجامل على حساب قيمنا، أو نزكّي فعلًا لا نتفق معه فقط لمجاراة المجموعة، أو نُثني على عملٍ لا يستحق لأننا نخشى أن يُنظر إلينا باعتبارنا "صعبين أو ناقدين".
في هذه الحالة، يتسلل التناقض إلى داخلنا، ونشعر تدريجيًا بانفصال بين ما نظهره وما نشعر به فعلًا.
أن نكون لطفاء لا يعني أن نكذب. يمكن للإنسان أن يكون صادقًا دون أن يكون جارحًا، وأن يعبّر عن رأيه بتهذيب دون أن يُحرج الطرف الآخر. يمكننا قول "أرى الأمر بشكل مختلف" بدلًا من "أنت مخطئ"، أو "أحببت الفكرة لكن لدي بعض التحفظات" بدلًا من تأييد لا نؤمن به.
في كل مرة نُمارس فيها هذا النوع من الصدق اللطيف، نعزّز من عمق العلاقة ونُشعر الآخر أننا نحترمه بما يكفي لنكون صريحين معه.
المعيار هنا شخصي ودقيق. هناك مجاملات لا تُكلّف شيئًا وتُسعد الطرف الآخر، كتلك التي تقال عند زيارة مريض أو حضور مناسبة سعيدة.
لكن هناك مواقف تستحق الصدق: عند تقديم تغذية راجعة، أو عند تقييم عمل، أو في العلاقات القريبة التي لا تُبنى على عبارات مجاملة بل على حوار حقيقي.
الفارق الأساسي أن المجاملة في هذه السياقات قد تؤدي إلى خيانة الثقة أو تعطيل التطور.
المجاملة ليست عيبًا، والصدق ليس قسوة. كلاهما مهارتان تحتاجان إلى وعي وموازنة. المهم أن نُدرك متى نستخدم كلماتنا كجسر، ومتى قد تتحول إلى قناع. وبين اللطافة والصدق، يمكننا أن نختار أن نكون صادقين بطريقة لطيفة، دون أن نتورط في تزييف يُتعبنا أو يُربك علاقاتنا.