في زحام الحياة المعاصرة، وبين محاولات الأهل المستمرة لتقديم "الأفضل" لأطفالهم، يغيب عن الأذهان أحيانًا أن السعادة لا تُشترى، ولا تُبنى من الرحلات الفاخرة أو الألعاب الإلكترونية باهظة الثمن.
فالذكريات التي تبقى، والتي تُشكّل وجدان الطفل حين يكبر، غالبًا ما تنبع من لحظات بسيطة، غير مخطّط لها، عابرة في ظاهرها، لكنها ضاربة الجذور في ذاكرة القلب.
طفل في حضن أمه يستمع لحكاية قبل النوم. أب يحاول صنع طائرة ورقية من ورق قديم ويضحك حين تفشل المحاولة. نزهة مشي قصيرة في حديقة الحي، اللعب بالطين بعد المطر، رسم فوضوي على حائط المطبخ.
هي هذه اللحظات التي تُنقش في الذاكرة، والتي تحوّل الطفولة من مرحلة عمرية إلى تجربة وجدانية عميقة.
يخلط الكثير من الآباء بين الوفرة والوفاء، فيظنون أن الذكريات السعيدة تصنعها الهدايا الكبيرة والمناسبات الخاصة فقط. لكن الحقيقة أن الطفل لا يقيس الحب بما يُقدَّم له، بل بما يُعاش معه.
الزمن المشترك، النظرة الحنونة، الضحكة العفوية، هي التي تبني داخله شعورًا بالطمأنينة والانتماء.
التجارب البسيطة غير المرتبة تحمل نوعًا خاصًا من الجمال. لا توقعات عالية، لا ضغوط، فقط متعة اللحظة. الطفل يتذكّر كيف شعر، إلى ما ارتدى أو كم كلفت الرحلة.
أحيانًا، يوم ممطر تقضيه العائلة في صنع بيت من الوسائد قد يبقى في ذاكرته أكثر من رحلة باهظة الثمن.
الأطفال يحبون التكرار لأنه يمنحهم شعورًا بالأمان. لحظات صغيرة مثل فطور مشترك كل صباح جمعة، أو غناء أغنية معينة في السيارة، تبني مع الوقت ما يمكن وصفه بـ"أمان الطفولة".
هذه التفاصيل البسيطة تتراكم لتكوّن لدى الطفل سرديته الخاصة عن الحب، الدفء، والانتماء.
حين يكبر الطفل، لن يتذكّر عدد الهدايا التي حصل عليها أو تفاصيل الديكور في غرفته، بل سيتذكّر من جلس معه، من ضحك لضحكته، من مشى بجانبه في لحظة خوف أو دهشة.
فالسعادة الطفولية لا تُعبَّأ في صناديق، بل تُصنع كل يوم، في المواقف الصغيرة، في التجارب التي قد لا ننتبه لها، لكنها تبني داخله يقينًا بأن الحياة يمكن أن تكون جميلة، ببساطتها.