الكرامة قبل الخبز، وقيمة الكاتب لا تقاس بالجوائز بل بالقضايا التي يدافع عنها، القضايا الموروثة عن الأب، ذاك الذي ظلت تكتب له وهو في قبره، حتى أهدته كتابها الأخير "أصبحت أنت"، لكن الجلسة عندما تكون مع صديقة ومحاورة بدفء الإعلامية بروين حبيب، لا بد أن تكشف حكايات يصعب تجاوز الكتابة عنها، كالحديث عن نزار قباني، وذاكرة الجسد، وجائزة نجيب محفوظ، مروراً بالحب الأول وهلوساته، والعديد من المدافن التي أرادت الروائية أحلام مستغانمي أن تدفن بها، وحكت عنها في جلسة بعنوان "ثلاثون عاماً من ذاكرة الجسد إلى أصبحتُ أنت" في معرض الشارقة للكتاب، والتي وقّعت بعدها كتابها الذي صدر مؤخراً "أصبحت أنت".
"بين كتابين تغير العالم.. في أكثر من بلاد غدا الموت أكثر وفرة من الحياة.. ونحن نريد الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا..".
لا بد أن يعلم العالم غير القادر على حماية مستشفى ولا مدرسة من القصف، أننا لم نولد أشراراً ولا قتلة، فغاية الإنسان الأولى في هذه الدنيا الأمان، وغاية الإنسانية الأولى لا بد أن تكون السلام، وقدرنا أن نتقاسم هذا الكوكب إلى حين.. فلتعذرنا "غزة" المغدورة بدمعها ودمها، بعتمتها، بليلها ونهارها، برغيفها المنتظر، بسيارة إسعاف لا تحضر، بأمنية افتتاح معبر، ليس أكثر. بقصيدة ألقتها بصوت يرتجف مغالباً حزنه، اختارت أحلام أن تبدأ وما سبق بعضٌ منها، وعلى طريقتها قدمت الإعلامية بروين حبيب ضيفتها بقصيدة، نورد جزءاً منها هنا:
"أما بعد فكانت الثائرة برواية يسرح الشعر شعرها الطويل، اقتحمت قلعة الإبداع العربي، لا تساندها سوى ذاكرة جسدٍ مندورٍ للكلمة، وبرغم فوضى حواس سدنة الهيكل، يومذاك حين رؤوها عابرة سبيل، لا مقيمة في كوكب الرواية، إلا أنها دوخت كبيرهم الذي علمهم الشعر".
وقالت بروين في مقدمتها: وأنا طالبة قرأت لها، التقيتها عام 2004 في برنامج "نلتقي مع بروين حبيب" الذي يعتبره البعض مرجعاً لهم، والتقيتها عام 2014 في صالوني الثقافي، واليوم أحتفي معها بثلاثين عاماً على صدور "ذاكرة الجسد" الذي أثار الكثير من المشاكل، كما أحتفي معها بتوقيع كتابها الأخير "أصبحت أنت".
لترد عليها أحلام: أنتِ أنقذتِ التراث العربي.
"ذاكرة الجسد" زادتني 10 كغم
"ذاكرة الجسد" كان حدثاً غير متوقع في حياة مبدعته، حيث قالت: ما حدث قبله وبعده وما عانيته بسببه جعلني أفكر بأن كل هذا يستحق كتاباً، فأنا لم أكن أتوقع هذا النجاح، كتبته في فرنسا حيث كنت أدرس في باريس ولدي ثلاثة أطفال صغار، كنت أكتبه ليلاً عندما ينام الأولاد، وأخبئ الأوراق تحت السرير، كنت مرتبكة والقصة كتبتها بعفوية ووظفت فيها ما لدي، رسائل أبي وما أعرفه عن الثورة الجزائرية، وقصة عاطفية شخصية، صنعت منهم رواية، وذهلت بنجاحي، فقد كنت أقرأ ما أكتب للمساعدة المنزلية، وأضافت: لم أكن واثقة ولا حتى كنت آخذ نفسي مأخذ الجد، فجأة تصبح هذه الرواية مهمة وحدثا خرافيا، وكان لبيروت الفضل في نجاحها، فقد سلمتها لدار نشر جزائرية ولم يهتموا كثيراً بها إلا عندما صدرت في بيروت، صدرت عن دار الآداب من قبل د. سهيل إدريس، وهي الدار التي أطلقت غادة السمان، ونجيب محفوظ، نزار قباني، وأدونيس، نجحت واكتشفت مجتمعاً لا علم لي به، وأصبحت أدعى يومياً إلى الغداء والعشاء، حتى أن زاهي وهبي سألني مرة عما كسبته من ذاكرة الجسد، فأجبته بأني زدت 10 كغم.
"جائزة نجيب محفوظ" بوابة العداوات
عام 1998 حصلت مستغانمي على جائزة نجيب محفوظ للآداب، وكان للجائزة ثقلها حينها، إذ تأسست بعيد تسلم نجيب محفوظ جائزة نوبل، جاءت هذه الجائزة مصادفة كما ذكرت مبدعة "عابر سرير" وكان الفضل فيها لـ د. فريال غازول، التي رشحتها لنيل الجائزة، والحصول على حقوق ترجمة الرواية التي لم تكن قد ترجمت إلى لغات أخرى حينها، وعن سبب العداوات التي واجهتها، قالت: حينها لم يتوقع أحد أن تحصد الجائزة امرأة، وجزائرية، حيث كانت الإشاعات تتردد عن ضعف علاقة الجزائريين باللغة العربية، وبدأت العداوات والإشاعات، فأشاع البعض أن نزار قباني هو من كتبها.
"نزار قباني" الغائب الحاضر
الحديث عن "ذاكرة الجسد" يستحضر تلك الكلمة الجميلة التي كتبها نزار قباني عنها بعد قراءته للرواية، عندما قال :"دوختني هذه الرواية وتمنيت لو أنني أنا من كتبها" لهذا كان لا بد من المرور بالعلاقة مع نزار، وتلك الصدفة الجميلة التي حيكت حولها الكثير من الأقاويل، وقالت عنها: عندما التقيت نزار بعد فترة طويلة من الغياب، بعد صدور الرواية، طلب مني أن أعطيها له ليقرأها وكان د.سهيل قد أخبره عنها، والله استحيت منه، قلت من أنا ليقرأني نزار؟.
وأكملت: لكنه أعاد طلبه، وبعدها أخبرني بأنه أحضر الرواية، وغاب عدة أيام قبل أن يتصل بي ويخبرني أنه في حالة جنون، ولم أصدق ما حصل، ظننت أني أحلم، لكن من بعدها هو أخذ المبادرة وقرر أن يكتب عن الرواية، وأضافت: أنا لم أطلب منه، ولو طلبت لما استجاب لي، فالكاتب لا يستجدي، وطلبت فيما بعد من ابنته هدباء أن تطلعني على النسخة التي قرأها لأرى المقاطع التي استوقفته وسطّر تحتها، والحقيقة أن هذا الفضول راودني في مرات عدة مع أشخاص آخرين، إلا أنهم رفضوا إطلاعي عليها، وأدركت أن ما يستوقفنا يشي بنا.
وقفة مع الموت
في مقدمة كتابها "أصبحت أنت" الذي أعلنت أنها كتبته لوالدها الذي جسدته بشخصية "خالد بن طوبال" كتبت أحلام متسائلة: ما جدوى أن أكتب، إن لم يكن في المقابر مكتبات ليقرأني أبي، واسترسلت في الحديث عن علاقتها بوالدها الذي كان له الأثر الأكبر على شخصيتها، مستذكرة قصيدة تقرب شخصية هذا الأب المثقف، والرجل الجزائري الصعب الذي اشترى مكتبة كاملة ليسجل موقفاً أمام صاحب المكتبة الذي ظنه يتساءل عن الكتب ولا يشتري، وبعدها غلف تسرعه بأن أخبرها أنه اشترى لها مكتبة، وأنفق كل ما يملك، لأن الكرامة أهم من الخبز، وقالت: يكفي أن أخبركم أنه في لقاء صحفي معه ذات مرة، أخبر الصحفية بأنه جاء إلى هذا العالم لينجب أحلام، لهذا كنت أريد أن أعرف إن كان أبي سيقرأني، وأن أبكي وأنا أكتب هذا الكتاب، وأشعر أن أبي يحكمني من قبره، وأفاخر بهذا.
الحب على تردد مصر
في ثمانينيات القرن الماضي، بعيد الاستقلال مباشرة كان هناك مدرسون من المشرق العربي، جاؤوا جميعاً لتدريس اللغة العربية، وعن قصة حبها الأولى لأستاذها، التي لاحقتها بروين لتحكيها، قالت: كنت أشعر بالغيرة إذا تحدث مع فتاة أخرى، وأيضاً إذا أعطى قصيدة حب لغيري لتقرأها، لكنه لم يقل شيئاً، فالحب الأول عبارة عن هلوسات، فقد كنت أبني قصة من اللاشيء، لكنه جميل لأنه جعلني أحفظ جميع الأغاني المصرية.
قيمة الكاتب تقاس بالقضايا
وعن رفضها لتسلم العديد من الجوائز، أجابت: أعتقد أن الجوائز العربية أفسدت الأجواء الثقافية، لكن في الحقيقة أن رفضي كان لارتباط الجائزة بموضوع معين، وأعترف أنني في هذه المرات كنت أبي، اكتشفت هذا وأنا أكتب كتابي عنه، كنت أكتشف كم أشبهه، فأنا أختار من يكرمني، وأعتقد أن الكتاب الذين يجمع عليهم الجميع لا موقف لهم، وأعتقد أن قيمة الكاتب لا تقاس بالجوائز التي حصدها ولا بالترجمات، بل بالقضايا التي كتب عنها.
بحثاً عن مدفن
عندما تأثرت بمجزرة قانا، رفضت الذهاب إلى قانا والتقاط الصور على أشلاء شهداء قانا، وقالت: أخبرتهم حينها بأنني قررت أن أدفن في قانا، وأخبرت أخي بالأمر، لكنه طلب مني كتابة وصية لأنه كان يعرف أنني كل مرة أختار مدفناً جديداً، كنت أريد أن أسخّر موتي لدعم قضية ولا أموت مجاناً، ومرة أخرى تأثرت بقضية "جزر القمر" وقررت أن أدفن هناك، فعلى الأقل أكون دعاية لهم، أما مدفن الأميرة الإيطالية فيتوريا أليادا فكان تبرعها بالدفن هناك دعما لصديقتها التي كانت تريد أن تؤسس مدفناً في إيطاليا، وآخر خياراتها كما ذكرت أنها تمنت أن تدفن في الشارقة؛ لأنها تحب المآذن، والكتب وقراءها الذين تعتبرهم أهلها، وهم كثر هناك.