في عالم يفيض بالأحاديث اليومية، حيث لا تهدأ الشاشات ولا تتوقف الرسائل، تصبح الشكوى خيارًا سهلًا ومتاحًا.
شكوى من الطقس، ومن الزحام، ومن ضغط العمل، ومن الآخرين، وحتى من أنفسنا.
تبدو الشكوى كصوت داخلي لا يهدأ، يمنحنا شعورًا مؤقتًا بالتنفيس، لكنه يترك وراءه ضجيجًا يستهلك طاقتنا ويثقل قلوبنا.
لكن، ماذا لو اخترنا الصمت؟ لا الصمت المكسور بالحزن أو القهر، بل ذلك الذي يولد من وعي داخلي بأن الشكوى، في كثير من الأحيان، لا تغيّر شيئًا سوى استنزافنا.
حين نتوقف عن الشكوى، لا يعني ذلك تجاهل الألم أو القبول بالخطأ، بل هو انتقال من رد الفعل العاطفي إلى الوعي الهادئ، فالشخص الذي يتوقّف عن الشكوى لا ينكر الواقع، بل يختار أن يواجهه بطريقة مختلفة: يسأل، ويُقيّم، ويتّخذ موقفًا، ثم يتحرّك… أو يترك، لكن دون ضجيج.
التوقف عن الشكوى واعتماد سياسة الصمت عندما يتعلق الأمر بظروف الحياة تجعلنا:
التكرار المستمر للشكوى يحوّلنا إلى متلقّين سلبيين للأحداث، بينما الصمت يمنحنا مسافة، تلك المسافة التي نحتاجها لنفهم الأمور من زوايا أوسع، بعيدًا عن الانفعال.
حين نكفّ عن الشكوى، نصبح أكثر وعيًا بأن بعض الأمور في حياتنا لا تتغيّر إلا إذا تغيّرنا نحن، الصمت هنا ليس خضوعًا، بل نضجٌ داخلي يدفعنا إلى الفعل لا إلى لوم الظروف.
من دون ضجيج الشكوى، نسمع أنفسنا بوضوح أكبر، ننتبه لما يزعجنا فعلًا، ولما نريده حقًا، ولما يمكن أن نفعله بدل البقاء في دوامة التذمّر.
حين نتحرّر من عادة الشكوى، نرسل إشارات واضحة للآخرين: إننا لا نحب دور الضحية، ولا نريد من يُنصت فقط لنشتكي، بل نبحث عن وعي، وعن توازن، وعن احترام متبادل.
المعادلة هنا دقيقة: التوقف عن الشكوى لا يعني السكوت عن الظلم أو إنكار المشاعر، بل هو خطوة نحو التعبير البنّاء، ونحو اختيار الزمان والمكان والوسيلة المناسبة للحديث، دون أن نغرق في التكرار، أو نستنزف أرواحنا في مقاومة ما لا نستطيع تغييره.
قد يبدو الصمت في البداية ثقيلًا، كأننا نحرم أنفسنا من حقّ طبيعي، لكن مع الوقت، يتحوّل إلى مساحة داخلية نظيفة، أقل ازدحامًا بالسلبيات، وأكثر احتواءً للنضج، نُصبح أكثر خفة، وأكثر وعيًا بما نشعر به… وبما لا نريد أن نشعر به بعد الآن.