يقول المثل الشعبي: "الحيطان دفاتر المجانين"، مشيرًا إلى أن الجدران لطالما كانت مساحة مفتوحة لأفكار وأحاسيس تتجاوز حدود العقل والمنطق. وهذا المثل يجد صداه بشكل واضح في فن الغرافيتي، إذ تتحول الجدران إلى لوحات بصرية تعكس مشاعر الإنسان واحتجاجاته وأحلامه.
يجسد فن الغرافيتي الإبداع والتمرد في آن واحد، فمن بداياته المتواضعة على جدران الشوارع إلى كونه جزءًا لا يتجزأ من المشهد الفني العالمي، تطور الغرافيتي ليصبح وسيلة قوية للتعبير عن الرأي والفن.
فيما يلي، نستعرض نشأة هذا الفن وأبرز الفنانين الذين رسموا بفرشاتهم معالم هذا التحول الثقافي.
فن الغرافيتي يعود بجذوره إلى عصور قديمة، إذ استخدم البشر الرموز والنقوش للتعبير عن أنفسهم على جدران الكهوف. ولكن، الشكل الحديث للغرافيتي الذي نعرفه اليوم بدأ في ستينيات القرن العشرين في مدينة نيويورك. في ذلك الوقت، كانت المدينة تعاني من مشكلات اجتماعية واقتصادية، وكان الغرافيتي وسيلة للفئات المهمشة للتعبير عن احتجاجها وصوتها.
أحد أوائل الأسماء المعروفة في عالم الغرافيتي كان فتى يُدعى دميتريوس تاكي 183، وهو مراهق من نيويورك بدأ يكتب اسمه ورقم الشارع الذي يقطن فيه على جدران المباني وعربات المترو. سرعان ما أصبحت هذه التوقيعات أو "العلامات" جزءًا من مشهد المدينة، ومع مرور الوقت، تحولت العلامات البسيطة إلى أعمال فنية أكثر تعقيدًا وألوانًا.
في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بدأ الغرافيتي في الانتشار خارج حدود نيويورك ليصل إلى مدن أخرى في الولايات المتحدة ومن ثم إلى أوروبا وأجزاء أخرى من العالم. بدأ الفنانون في هذه المرحلة بتطوير أساليب وتقنيات جديدة، بحيث استخدموا البخاخات لخلق تصاميم معقدة وملونة. وهنا الغرافيتي لم يعد مجرد توقيعات عابرة، بل أصبح وسيلة للتعبير عن الهوية والثقافة والمجتمع.
في الوقت نفسه، جذب الغرافيتي انتباه وسائل الإعلام والجماهير، وبدأ بعض الفنانين في تحويل أعمالهم إلى معارض فنية، ما أضفى على هذا الفن الجديد شرعية واعترافًا.
بانكسي هو أحد أكثر فناني الغرافيتي شهرة في العالم، رغم أن هويته الحقيقية لا تزال مجهولة. ولد في بريستول، إنجلترا، وتتميز أعماله بالذكاء والجرأة، إذ غالبًا ما تحتوي على رسائل سياسية واجتماعية ساخرة. ظهرت أعمال بانكسي في مدن مختلفة حول العالم، وأصبح شخصية أسطورية في عالم الفن الحديث.
رغم أنه بدأ كفنان غرافيتي في نيويورك، فإن باسكيات تحول لاحقًا إلى أحد أشهر الفنانين التشكيليين في العالم. بدأت مسيرته الفنية في شوارع نيويورك، حيث كان يستخدم اسم "SAMO" للتوقيع على أعماله. مزجت أعماله بين الغرافيتي والفن المعاصر، وغالبًا ما كانت تعكس القضايا العرقية والاجتماعية.
شيبارد فيري هو الفنان الذي صمم ملصق "أوباما الأمل" الشهير خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2008. بدأ فيري مسيرته كفنان غرافيتي في التسعينيات، وأصبح لاحقًا أحد أهم الفنانين المعاصرين الذين يستخدمون الغرافيتي ووسائط الميديا في أعمالهم.
هارينغ هو فنان أمريكي آخر بدأ مشواره الفني في شوارع نيويورك. أعماله المعروفة بأشكالها البسيطة والملونة انتشرت في جميع أنحاء العالم. كان هارينغ يستخدم الفن كوسيلة لنشر رسائل إيجابية ومحاربة التمييز، خاصةً في مجال حقوق الإنسان.
اليوم، أصبح فن الغرافيتي جزءًا من المشهد الثقافي في المدن الكبرى حول العالم. رغم أن بعضه لا يزال يُعد عملًا غير قانوني، فإن مدنًا كثيرة من بدأت في تخصيص مساحات للفنانين ليعبروا عن أنفسهم بحرية. في الوقت نفسه، تُشْتَرَى أعمال الغرافيتي وتعرض في المعارض الفنية والمتاحف، ما يعكس التحول الكبير في النظرة إلى هذا الفن.