في قلب دير سانتا ماريا ديلي غراسي في ميلانو، رسم ليوناردو دافنشي بين عامي 1495 و1498 واحدة من أعظم لوحات التاريخ: "العشاء الأخير". لكن هذه اللوحة، رغم عبقريتها، تعاني من لعنة جعلت منها أكثر من مجرد عمل فني؛ إنها قصة مؤلمة من الفناء والتدهور.
حين بدأ دافنشي العمل على "العشاء الأخير"، كان يسعى إلى إثبات نفسه كفنان بارع. وقد اختار تقنية جديدة تجمع بين الألوان الزيتية ومادة التمبرا، ما منحه حرية أكبر في التعبير عن تفاصيل الوجوه والمشاعر. كان يأمل أن يكون هذا العمل نقطة انطلاق لنجاحه الدائم، لكن ما لم يكن يعرفه هو أن اختياره هذا سيؤدي إلى مصير مأساوي.
سريعًا ما بدأت لعنة "العشاء الأخير" في الظهور. بعد الانتهاء من اللوحة، تعرضت لعوامل بيئية مدمرة، حيث كانت تقع بجوار المطبخ، ما عرضها للبخار والحرارة والرطوبة. تدهورت الألوان بشكل ملحوظ، وبدأ الطلاء يتقشر، ما جعل معالم العمل تتلاشى أمام أعين زائريه.
كما عانت اللوحة من التدمير المتكرر، إذ حاول العديد من الفنانين ترميمها، لكنهم أضروا بها أكثر مما ساعدوا. كان كل ترميم يضيف طبقات جديدة من الطلاء، ما أخفى التفاصيل الأصلية التي أبدعها دافنشي. حتى أن القيّمين على الدير قاموا بفتح باب في الجدار، ما أدى إلى إزالة جزء حيوي من اللوحة، وهو ما كان له تأثير سلبي على العمل.
لم تكن لعنة اللوحة محصورة في العوامل البيئية فقط. خلال الحملة الفرنسية على إيطاليا، استخدمت قوات نابليون القاعة التي تحتوي على اللوحة كإسطبل، ما زاد من تدهورها. وفي الحرب العالمية الثانية، دمرت قذائف الحرب الجدار الذي يحوي اللوحة، ما جعلها عرضة للعوامل الجوية لعدة أشهر.
في محاولة لإنقاذ "العشاء الأخير"، بدأت مُرممة إيطالية تدعى "بنين برامبيلا بارسيلون" ورشة ترميم بين عامي 1978 و1999. ورغم أن جهودها كانت تهدف إلى إحياء العمل الأصلي، فإنها أثارت جدلاً واسعاً بين النقاد والفنانين. اعتبر بعضهم أن عملية الترميم دمرت معالم اللوحة الأصلية، بينما رأى آخرون أنها أعادت للوحة بعضًا من رونقها المفقود.
ما يجعل "العشاء الأخير" أكثر من مجرد لوحة هو الرمزية التي تحملها. تتجلى لعنة دافنشي في مواجهة الفنان مع الزمن، وتأكيد هشاشة الفن البشري.
اللوحة، التي كانت تُعتبر تجسيدًا للإبداع، أصبحت رمزًا للفناء والتدهور.
وبذلك، تظل لعنة "العشاء الأخير" تذكرنا بأن الفن، مهما بلغ من العظمة، لا ينجو من عبث الزمن. فهي ليست مجرد عمل فني خالٍ من العيوب، بل هي تجسيد لمواجهة بين الخلود والفناء.