من الصعب تجاوز تلك الحوارات الغريبة حين تصادفك، إن كنت قارئاً انتقائياً دائم البحث عن متاهات جديدة في أبعاد الأدب اللامرئية، أو كنت صياداً للمتع العقلية غير المألوفة، سوف تسحبك تلك الأسئلة عبر جاذبية الفضول، لتنبش تلك المخيلة التي استغرقت في الحياة اللامرئية للشعراء الموتى، متتبعاً تلك السريالية الشعرية باستنطاق أرواحهم في "بريد السماء الافتراضي" للكاتب والشاعر السوري أسعد الجبوري.
صدر عن مجموعة "بريد السماء الافتراضي" 6 كتب تشي بتلك المتعة العميقة التي وجدها الجبوري في نبش تلك القبور بحثاً عن الضوء، واللحاق بالشعراء الموتى إلى عالمهم الآخر سعياً خلف الأجوبة. إنه الفضول الذي يصعب العيش دونه، ولكل عقل فضول يدفعه للمواصلة، بينما فضول كاتبنا، يتقصى جذور الشعر في حيوات شعرائه من شتى أصقاع الأرض، وكأنه يلاحق أرواحهم بحثاً عن تتمة تلك الفراغات التي تركتها أشعارهم في مخيلته.
س: هل تعتقد أن السريالية انتزعت من اللغة مفهوماً استثنائياً للشعر؟
ج: بالضبط. فالسريالية غسّالة "أوتوماتيك" لتنظيف ثياب العقل من كلّ ما في أدوات اللغة من شوائب وأوساخ وروائح كريهة.
س: وماذا عن الشعر؟
ج- "الشعرُ عاصمةُ الجحيم المطفأ".. مقتطف من حوار مع الشاعر الفرنسي الراحل فيليب سوبو، يعطينا لمحة عن إيقاع هذه الأحاديث الخارجة عن المتوقع والمعتاد، البعيدة عن التكرار، والمتحررة من كل تلك القوالب الجاهزة التي خنقت لغتنا الحياتية بأطر النمطية المحدودة.
وفي صدد الحديث عن هذه المجموعة (الاكتشاف) لا بد من الوقوف أمام سكاكر الدهشة، تلك التي تحدث عنها الشاعر والناقد الأدبي عقل العويط في تقديمه للكتاب الأول من المجموعة بعنوان (بريد السماء الافتراضي: شعراء برائحة الكآبة والجنس والانتحار) حيث وصفها بأنها ليست دهشة مفاجئة أو مجانية، بل هي دهشة استشكافية، قبل أن ينتقل للحديث عن تقمص الجبوري لحيوات شعرائه وأجسادهم، وكوابيسهم، وأسئلتهم، وأحلامهم المحققة والمجهضة على السواء.
أخيراً لا بد من التوقف عند المؤلفات الستة، وهي "شعراء برائحة الكآبة والجنس والانتحار"، منشورات دار ميم، الجزائر، 2018، و"شعراء خارج موسوعة العدم"، منشورات دار البلد، سورية 2018، "شعراء نائمون في غرف الغيب"، منشورات وزارة الثقافة السورية 2019، و"شعراء ما بعد الورق"، منشورات الدار المغربية العربية، المملكة المغربية 2020، و"شعراء بنسخ منقحة"، منشورات دار الأيهم القاهرة، 2020، وآخرها (شعراء السمو والضلال والخلود) وصدر عام 2023 عن "دار الينابيع" في دمشق.
وحاور المؤلف في كتابه الأخير كلًّا من الشعراء: ابن الفارض، فرناندو بيسوا، نجيب سرور، تشارلز بوكوفسكي، أحمد بركات، والاس ستيفنز، تيسير سبول، إليزابيث بيشوب، أمجد ناصر، جورج شحادة، دنيس بروتوس، مارك ستراند، معين بسيسو، جوزيف برودسكي، جان جينيه، زينايدا غيبيوس، محمد حسين هيثم، يفغيني يفتوشينكو، ممدوح عدوان وأوجين غيلفيك.
