"ليس هناك صراع على الدهشة، ولا مفاجآت بألوان صارخة وأحجام مهولة، إنها سيمفونية متناغمة تعيد مشاعرنا إلى الأرض، تحديدًا إلى اللوحة الأم".
ثمة حوار خفي تستشعره بينما تتنقل بين صالات العرض في "آرت دبي" بدورته السابعة عشرة، إنه حوار فني متوازن وساحر بالوقت ذاته، يعيدنا إلى تقاليد الفن وتأثيره الممتد عبر التاريخ.
في البداية كانت لنا وقفة مع غاليري تانيت من بيروت وميونخ، والذي قدم مجموعة متنوعة لأبرز فنانيه، من بينهم الفنانة اللبنانية زينة عاصي، التي أعادتنا بضربات فرشاتها وبأسلوبها التعبيري الناعم إلى كلاسيكيات المدرسة التعبيرية وبلاغتها في التأثير، قبل أن ننتقل لتأمل لوحة "سكين وورود" للفنان يوسف عبدلكي الذي اشتهر بأسلوبه الفريد بالرسم بالفحم وأقلام الرصاص، وعلى مقربة منه، كان مشهد الاحتراق يبدو وحشيًا بأسلوب الفنان نبيل نحاس، وطريقته الجذابة بتوظيف اللون الأسود بجرأة واضحة في لوحته.
في غاليري إمامي آرت، من كولكاتا – الهند، نعود مع أعمال الفنان ديبابيش بول إلى منابع ورمزية الفن التقليدي في الهند، والتي استطاع أن يطورها بأسلوب حداثوي ساحر، جعل هذه المجموعات الصغيرة لكل عمل تبدو كأيقونات استعادية لمخزون حضاري كبير استطاع أن يعيد تشكيله واختزاله عبر هذه المجموعات المغرقة بالتفاصيل.
ولا يمكن تفويت التأمل في التجربة الفنية التي قدمها بارو غاليري بإشراف إمليانو فالديس، والتي ابتكرها مجموعة من الفنانين البرازيليين باسم "التركيز الفني الحيوي"، حيث تم إنتاج هذه الأعمال خاصة لـ "آرت دبي" وينطلق أسلوبها الفني من التجريدية، في محاولة للخروج عن الحدود التقليدية للوحة والغوص في خلق مؤثرات بصرية تبدع حالة افتراضية، تتداخل فيها حاسة الإدراك الواعي في محاولة ملاحقة المشهد اللوني ما بين الجدارن والأعمال الفنية المعروضة.
وتسرق الأنظار والمشاعر تلك اللوحات متوسطة الحجم للفنان صفوان داحول، في غاليري أيام، والتي قدم فيها عرضًا بانوراميًا مصغرًا لتجربته الفنية في العقدين الأخيرين، عاد فيه إلى تكوينات الجسد بعد غياب سنوات طويلة، وتناغم العرض في حوارية ملهمة مع أعمال الفنان صادق كويش الفراجي بشخصياته الخيالية التي جاءت بإيحاء وجداني منسجم مع بانوراما داحول، بينما كانت أعمال قيس سلمان التجريدية تنتظر أن تخطف عين المراقب بحضور تجريدي يعتمد على شيفرة تتعصب للوحة الأم ويراهن على جاذبيتها الأبدية.
أمام أعمال رائد الفن الإيراني ماركوس عريغوريان في غاليري ليلى هيلر، تجد نفسك في معزل عن ضجيج العالم، تخوض في عمق الأسئلة المتأملة في جوهر الوجود والزمن ومفهوم القيمة، بينما تقف لتستغرق في لوحة أدوات الطعام البسيطة التي شكلها من معدات حقيقية، قام بتثبيتها بمشهد عمودي وكأنه يحاول التقاط اللحظة بما فيها من بقايا طعام، بينما يضعك أمام العديد من الأسئلة الوجودية أمام لوحات القش المذهلة تلك.
أخيرًا، بالحديث عن الزمن لا يمكننا تجاوز تحفة الفنان التركي غويدو غازاريتو التي عرضها غاليري زيبرمان، وكأنه يريد تسليط الضوء بقوة على تلك الجمالية الخاصة للأشياء التالفة والمهترئة والمتآكلة، عبر مجسم عمله النحتي الرائع "عاد عدد لقليل من ملبورن" وهو عبارة عن تجسيد لقطعة أساس تبدو وكأنها انتشلت من الغرق بعد سنوات، لتعود محتفظة بآثار كل ما مرت بها هناك، وكأنه أضاف لها هويةً ووجودًا جماليًا ساحرًا مع تآكل بعض أجزائها، وتلك اللمسة الساحرة التي تركها الغبار وذاكرة الموت.