بصوتها الذي بات رمزًا للدفء والسلام، وبموهبتها التي لا تزال تلهم أجيالًا، تحتفل الفنانة اللبنانية فيروز بعيد ميلادها التسعين. مسيرة فنية امتدت لعقود، حوّلتها من فتاة خجولة في زقاق البلاط ببيروت إلى أيقونة للفن العربي، وسفيرة للموسيقى اللبنانية إلى العالم. عبر الزمن، ظلت فيروز عنوانًا للرقي والتجدد، وأسهمت أعمالها في تشكيل وجدان الشعوب العربية، وحجزت مكانة لا تزول في تاريخ الفن.
وُلدت نهاد وديع حداد، الشهيرة بفيروز، في 20 نوفمبر 1935 في منطقة الشوف بجبل لبنان. نشأت في حي زقاق البلاط في بيروت ضمن أسرة متواضعة. كانت طفلة خجولة، متعلقة بجدتها، وقضت طفولتها بين أجواء الطبيعة في الشوف وأجواء المدينة. أظهرت ميولها الفنية مبكرًا، حيث كانت تفاجئ عائلتها وجيرانها بالغناء في ليالي الشتاء.
كانت أسرتها تعاني من ضيق الحال، ما دفعها إلى الاستماع إلى الموسيقى عبر راديو الجيران أو أثناء مساعدتها لوالدتها في الأعمال المنزلية. استلهمت نهاد ألحانها الأولى من أصوات عمالقة الطرب آنذاك مثل أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، وأسمهان.
في عام 1947، اكتشف محمد فليفل موهبتها في إحدى الحفلات المدرسية، وفتح لها باب الانضمام إلى كورس الإذاعة الوطنية اللبنانية. بعد أربع سنوات من التدريب المكثف، قدّمها حليم الرومي إلى الجمهور، وأطلق عليها اسم "فيروز". قدمت أولى أغانيها التي لاقت استحسانًا واسعًا، مثل "يا حمام يا مروح"، و"بحبك مهما أشوف منك"، لتبدأ فصلاً جديدًا في حياتها.
في الخمسينيات، التقت فيروز بالأخوين رحباني، وبدأت معهم رحلة فنية استثنائية. شكّل هذا التعاون طفرة في الموسيقى العربية، إذ قدّموا أكثر من 800 أغنية و15 مسرحية غنائية. مزجت أغانيها بين الأصالة والحداثة، وتنوعت مواضيعها بين الحب، الوطن، والقضايا الاجتماعية؛ ما أكسبها ألقابًا عديدة مثل "جارة القمر"، و"سفيرة النجوم".
سطع نجم فيروز على مسارح كبرى مثل مهرجان بعلبك ودمشق، ووصل صدى صوتها إلى مسارح عالمية مثل لاس فيغاس.
لم يكن صوت فيروز مخصصًا للحب فقط، بل غنّت للوطنية والقضايا الإنسانية الكبرى. قدّمت أغنيات خالدة عن القدس وفلسطين، وغنّت للحياة البسيطة وللبنان، مستعيدة روح الهوية الوطنية في لحظات حرجة من تاريخ بلدها.
لطالما كانت حياة الفنانة الكبيرة فيروز مليئة بالمحطات المؤثرة التي تركت بصمتها في مسيرتها الفنية والشخصية. واحدة من هذه اللحظات المؤلمة حدثت عام 1961، عندما فقدت والدتها في نفس يوم تسجيلها لأغنيتها الشهيرة "يا جارة الوادي". ورغم الحزن العميق الذي عاشته، تمكنت فيروز من تجاوز المحنة، واستمرت في إبداعها الفني الذي ألهم الملايين.
وفي الثمانينيات، واجهت فيروز محطة أخرى شديدة التأثير، وهي انفصالها الفني عن الأخوين رحباني بعد سنوات طويلة من التعاون الذي أفرز أعمالًا خالدة في تاريخ الموسيقى العربية. إلا أن هذه المرحلة لم تكن نهاية المشوار، بل بداية فصل جديد في مسيرتها.
مع ابنها زياد الرحباني، قدمت فيروز أعمالًا مختلفة أظهرت جانبًا آخر من موهبتها، إذ حملت ألحانه جرأة وتجدّدًا؛ مما أضاف بعدًا جديدًا لتجربتها الغنائية، مؤكدًا قدرتها على مواكبة التحولات الفنية دون التخلي عن أصالة صوتها وروحها الإبداعية.
هكذا، ظلت فيروز رمزًا للتحدي والإبداع، مستمرة في رسم ملامح استثنائية في تاريخ الفن العربي.
على مدار مسيرتها، حصدت فيروز العديد من التكريمات من دول عربية وعالمية. حصلت على وسام الشرف من ملك الأردن عام 1963، ووسام جوقة الشرف الفرنسي عام 2020 من الرئيس إيمانويل ماكرون. كما حظيت بتقدير العديد من الرؤساء مثل فرانسوا ميتران وجاك شيراك.
قدّمت فيروز ثورة موسيقية حقيقية من خلال الأغاني القصيرة ذات المعاني العميقة، مخالفةً التقاليد السائدة في الموسيقى آنذاك. أغانيها التي تتسم بالبساطة والعمق لا تزال محفورة في الذاكرة العربية. في عام 2015، تحول منزل طفولتها إلى متحف يجسد إرثها الثقافي والفني.
فيروز ليست مجرد مطربة؛ إنها رمز للموسيقى العربية التي تجاوزت حدود المكان والزمان. بصورها النادرة وأغانيها الخالدة، ستبقى "جارة القمر" شاهدة على العصر، ملهمةً للأجيال القادمة، وصوتًا لا يُنسى في ذاكرة العالم.