"على الإنسان أن يكون مستعداً لأن ينزف في سبيل الحقيقة، فالحقيقة لا تعترف بالسعادة المجانية، أنت تنال السعادة بقدر ما تضحي".
ليست هذه العبارة الفلسفية العميقة سوى بعض من فيض في حديث الروائي إبراهيم الكوني، شخصية العام الثقافية، الذي حلّ ضيفاً على معرض الشارقة الدولي للكتاب في جلسة حوارية بعنوان "صحراء الطوارق" قدمتها الإعلامية لوركا سبيتي، ضمن فعاليات اليوم الأول للمعرض.
في عالم غير معني بطرح الأسئلة، بقدر ما تستهويه الأجوبة، يطرح الكوني الكثير من الأسئلة دون أن ينتظر الأجوبة، لأن الجواب له حدٌ، وليس للسؤال حد، الجواب أيديولوجيا، والسؤال ميثولوجيا، ذلك الينبوع الذي تدفق في نتاجه الفكري ليصدر 91 كتاباً، حيث ترجمت كتبه لأكثر من 40 لغة حول العالم، لأنه استطاع أن يتفرد بنقل أسرار الصحراء وكنوزها الروحية إلى العالم، مقدماً بعداً مختلفاً وساحراً لكل باحث عن المعرفة.
الهجرة مرآة للهوية الحقيقية
"الهجرة تولد النبوة، كما تولد الكينونة الحقيقية التي لا توجد سعادة من دونها، نحن لسنا معنيين بالأشياء التي تُرى، بل بالأشياء التي لا ترُى، لأنها أبدية وتشعرنا بالامتلاء الذي يجعلنا على علاقة حميمة بالبعد المفقود، وهذا يجب أن يرّبي فينا الإحساس بالفقد الذي يحفزنا لأن نعرف أكثر، فالحكمة رهينة الألم، ومن أراد أن يتعلم عليه أن يتألم، والصحراء علم، وهي أم العلوم لأنها ليست مكتشفة" خريطة طريق مختصرة تبدو أشبه بشيفرة اختزل من خلالها الكوني مسيرة حياة أتقن خلالها ثماني لغات ليقرأ آداب العالم أجمع، متتبعاً خطى فضوله، لينقل لنا هذه الخلاصة عن فضيلة الهجرة والبحث عن الأنا، هذه الهوية المفقودة التي لا نجدها إلا من خلال الألم والبحث والتضحية.
لا وجود للخيال
عند سؤاله عن السبب الذي أبقاه متعلقاً بالصحراء التي غادرها منذ صباه، ولم يفكر بالكتابة عن أوروبا التي يسكنها منذ أكثر من 50 عاماً، قال: "نحن نكتب عن المكان الذي يسكننا، وليس عن المكان الذي نسكنه، المكان الذي نكتشف فيه البعد الروحي للوطن، وهو الأغنى والأكثر ثراءً، فالوطن قيمة نكتشفها بأنفسنا ولا يجب أن نلّقن بها من الخارج".
وانتقل بعدها للحديث عن الميثولوجيا والأساطير التي تعتبر ضرباً من الخيال، ليؤكد أنه لا وجود للخيال، فكل ما تخيله الانسان هو إما كان موجوداً في السابق، أو أنه موجود في الواقع، أو أنه سيكون موجوداً في المستقبل، وقال: "الميثولوجيا علم لم يشفر حتى الآن، ولكن عندما نريد اللجوء إلى الحقيقة لا نستطيع إلا من خلال الميثولوجيا، بدليل أن كل ملاحم الآداب الكبرى كانت عبارة عن ميثولوجيا، وكلها عالجت مسألة الهجرة، من جلجامش والإلياذة والأوديسّا والكميديا الإلهية، الفردوس المفقود، ذهب مع الريح، والأديان كلها انبثقت عن الميثولوجيا".
الصحراء مسقط رأس التقويم
أما عن حكايته الملهمة التي بدأت مذ كان في عمر الخامسة، عندما كان طفلاً شقياً وضاع في الصحراء لـ36 ساعة دون أن يجده أحد، فقال: "حررت نفسي ونجوت بنفسي حينها دون عون في أكبر صحراء في العالم، ابتعلتني الصحراء وولدتني من جديد، في تلك التجربة شعرت بأني غادرت هذا العالم وعدت إليه من جديد بعهد قطعته على نفسي، فقد شعرت بأن الصحراء مظلومة، فكل شيء في طبيعة هذا العالم قال كلمته، الصحراء وحدها لم تقل ما لديها، وعرفت من خلال التأمل أنها وحدها مسقط رأس التقويم الذي ولد فيها، وليس في الجبال أو الغابات، عرفت أنني مكلف بنقل هذه الحقيقة وليس من حقي أن أصمت، هذا العهد الذي قطعته على نفسي جعلني أكتب 91 كتاباً وما زلت أشعر بأن عليَّ الاستمرار".