في روايتها القصيرة "دار خولة" الصادرة عن منشورات تكوين (طبعة أولى 2024)، عرفت بثينة العيسى كيف تعيد طرح قضية الأرملة إلى واجهة الكتابة، بإيجاز يلامس القصّ وإطناب يلامس الرواية.
قدّمت العيسى سردًا بين شكليْن روائييْن لتطرح قضيّة كانت على مدى عقود جزءًا من قضايا مستدامة الطرح ألا وهي "حقوق المرأة"، فخولة الأكاديميّة المثقفة، والأم لثلاثة شبان، ظهرت وكأنّها طفل يتشكّل بعد موت زوجها لتقارع متغيّراتها الذاتيّة بصوت عالٍ ووحدتها بصوت أعلى.
ووفقًا لتقريرٍ نشرته صحيفة النهار اللبنانية، تخطّت العيسى في نصّها صورًا نمطيّة عدة، منها صورة الأم المنكسرة بعد وفاة الزوج؛ الصورة التراجيديّة- الدراميّة التي كانت مطلعًا لأعمال سينمائيّة وتلفزيونيّة عربيّة عدّة.
وتغلّبتْ الكاتبة على هذه القوالب المكرّرة عبر التركيز على ما يدور في فكر شخصيّتها الأساس "خولة " (كره أميركا والشيخوخة والتصابي).
هذه الأفكار تحيلنا إلى الالتزام الأدبيّ بقضيّة محاربة "القطب الكوني الأحادي" وطغيان ثقافته من جهة، وإلى تركيب المرأة الذاتي والنفسي الرافض لمرحلة الخروج من الصبا نحو الأمومة أو مرتبة الجدّة من جهة ثانية.
و"قرّرتْ أن تشيخ بكرامة، رغم أنّ الشيخوخة في جوهرها إذلال وئيد" (ص.8)، صياغة العيسى لجملة خبريّة تحمل دخول الشخصيّة عالم الشيخوخة كانت مبنيّة على قوّة واختيار لا على رضوخ، أي أنّنا أمام صورة واضحة للمرأة بعد الموت، موت المراحل السابقة، موت زوجها، موت اللحظات السابقة: "لا تزال خولة قادرة على العيش مستقلّة (ص.8 )....".
اختارت بثينة العيسى أن تبدأ ببناء شخصيّتها خولة بإخفاقاتها وقلقها وتساؤلاتها الذاتيّة، ليكون ذِكْر علاقتها بزوجها الراحل " قتيّبة" بدءًا من الصفحة 31. والحقّ أنّ تفضيل الكاتبة استهلال نصّها بتقنية البناء بدلًا من تقنيّة الاسترجاع يعني أنّ جلّ تركيز المتلقّي سيكون على رؤية الكاتبة إلى الذات، أو بالأحرى إلى الإنسان، وهو جزء من ثالوث منظّر البنيويّة التكوينيّة الأغرّ لوسيان غولدمان القائم على (الله/ الإنسان/ العالم).
شكّلت الذات النقطة الرئيسة في نصّ الكاتبة، حيث عمدت خولة إلى رسم نفسها على أنّها الطفلة التي تتصرّف وفقًا لمنطق الفرد فقط من دون الاكتراث لأي حالة اجتماعيّة تربطها "أحسّت أنّها واحدة من نساء ألف ليلة وليلة اللاتي يجدن فكّ السحر ويعدن العجل" (ص. 69).
أتت الحواريّة بين ناصر ويوسف وخولة كجزء من محاولة اندماج الأجيال التي سرعان ما تفشل حين تنهال الانتقادات والسخرية على خولة؛ بسبب مواقفها تجاه هويّة الخليج وحرب الكويت غيرهما.
توسّلت الكاتبة أن تخرج المرأة من بوْتقة النّقد الذاتي لتكون متحرّرة من وضعها الاجتماعي، ومكتشفة لنفسها كأنّها طفلة تتعرّف على خاصيّة النطق والسلوك.
آثرت بثينة العيسى جعل الرؤية إلى السرد من الخلف، أي أنّ الراوي يعلم كلّ الأحداث وهو أقدر على تشكيلها من دون مساندة الشخصيّات. هذا الاستبعاد للشخصيّة جعل من خولة في سياقات كثيرة بموضع محاكمة من المجتمع، من الابن، من الماضي، وأظهرها ضحيّة، وجلاّدة لذاتها، نتيجة إخفاقات عدّة ثانويّة كانت أم جوهريّة.
التعاطي كان مبنيًّا على صياغة الكاتبة للشخصيّة، كأنّنا أمام صبيّة تحاول رسم بيت وشجرة. بثينة العيسى تحاول وحدها رسم المرأة الأرملة بعيدًا من معجم الصور النمطيّة؛ وكلها عوامل تسوّغ استخدام الصوت الروائيّ الواحد، لكنّها في آن أيضًا تجرّ الكاتبة نحو إخفاقات عدّة:
رواية بثينة العيسى أشبه بتفكيك لحال المرأة العربيّة...أحسنتْ الكاتبة بتعويم الظاهرة، وأخفقت في جعل الرؤية السرديّة من الخلف (السارد يعلم بالأحداث من دون إفساح المجال أمام الشخصية للحديث عن ذاتها).
بثينة العيسى تعيد كتابة المرأة بلغة عصريّة تزامنًا مع استمرار النزاع الاجتماعي على ظواهر عدّة منها: المرأة والحب/ المرأة والثقافة/ المرأة والأسرة/ المرأة واليتم/ المرأة والسياسة..
"دار خولة" رواية تعدّ فتحًا لجرح اجتماعي قديم قد يُطّهر من الأعراف، وقد تتمدد أكثر في دواخله.