في الطريق من وسط العاصمة السعودية الرياض، إلى مسرح محمد عبده في البوليفارد، لحضور "ليلة تكريم عبد الرحمن بن مساعد وصادق الشاعر"، سرحت بعيداً وأنا أنظر للمشهد العمراني المتطور (عن آخر زيارة لي قبل عامين بالتحديد لحضور حفل استذكار "صوت الأرض" طلال مداح)، كنت أستعيد ذكرياتي مع قصائد بن مساعد وألحان صادق الشاعر، لأحدد اللحظة التي اشتعلت شرارة العلاقة بيني وبين الأشعار التي تحولت إلى قصائد غنائية، أثرَت على مدى 36 عاماً، المكتبة الغنائية العربية بأعمال خالدة.
لا يستطيع أحد إنكار، سطوة مجموعة من الأعمال الغنائية في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وحضورها الكبير في شاشات القنوات الأرضية وأثير الإذاعات العربية من المحيط إلى الخليج، وأبرزها: "قالوا ترى" 1994، و"عيونك آخر آمالي" 1995، بصوت عبادي الجوهر، و"البرواز" 1992، و"مساء الخير" 1998 بصوت محمد عبده، والتي كان يعلن عن اسم شاعرها وملحنها على استحياء، فلم يحظ بن مساعد بفرصة البروز في وسائل الإعلام، مثل مجايليه من الشعراء، إما رغبة منه بعدم الظهور، أو قد يكون السبب؛ لكونه أميراً ينتمي للعائلة المالكة في السعودية، فآثر الابتعاد عن الظهور كشاعر باسمه، وكملحن باسمه المستعار.
لكن التقدير الملكي لموهبة عبد الرحمن بن مساعد، كان لافتاً عندما أسندت إليه كتابة "أوبريت الجنادرية" العام 1997، التي قدمها بعنوان: "كتاب مجد بلادنا"، بأصوات طلال مداح، ومحمد عبده، وعبد المجيد عبدالله، وعبدالله رشاد، والتي نافست بمعانيها وأفكارها وتجلياتها الشعرية أغانيه العاطفية التي صدرت في فترات متقاربة، مع أصالة وعبادي الجوهر، وكان لها حظ الانتشار الخليجي.
ومع بدايات الألفية الجديدة، وانتشار الفضائيات ووسائل الترفيه أكثر، هز بن مساعد وجدان الجمهور العربي، بمجموعة أغنيات من نظمه، أبرزها: "شبيه الريح" مع محمد عبده، و"سألتها" مع كاظم الساهر، بدأ من خلالها الجمهور يترقب حضوره الشعري أكثر وأكثر، مع توالي الأغنيات التي صارت أساسية في حديث العشاق، مثل: "مذهلة" و"ما هو عادي"، مع محمد عبده 2003، و"سيد جروحي" مع نبيل شعيل 2003، و"يسعد صباحك" و"النظرة الخجولة" مع أصالة 2004، و"أجهلك" مع عبادي الجوهر 2005، لكن انغماس بن مساعد الرياضي في رئاسة نادي الهلال (2008 – 2015)، سرق منه الشاعر والملحن، لصالح المسؤول الرياضي العاشق لناديه، فكانت أغاني تلك الفترة على جمالها، يعوزها شيء من الترويج الإعلامي، لتجلس في المكان الذي تستحقه في ذاكرة الأغنية الخليجية، مع حسين الجسمي ورابح صقر وعبد المجيد عبدالله وعايض وأحلام وآخرين.
عام 2023، وبالتزامن مع يوم تأسيس المملكة العربية السعودية، أفصح عبد الرحمن بن مساعد أنه الملحن صادق الشاعر ذاته، عندما كان يشرف على بروفات "معلقاتنا امتداد أمجادنا"، وهي المسرحية الغنائية التي كتبها وشاركه تلحينها الملحن سهم، وتستلهم أمجاد تراث الجزيرة العربية بوصفه امتداداً للحضارة التي انبعثت، فشيدت الدولة السعودية قبل ثلاثة قرون، وفي المسرحية يجاري عشرة شعراء سعوديون معاصرون المعلقات العشر الشهيرة في التراث العربي، وتسرد قصصهم تأسيس الدولة السعودية الأولى، مروراً بالدولة الثانية، وصولاً لتوحيد المملكة العربية السعودية.
يومها كشف بن مساعد، أنه يقدم خلاصة روحه كشاعر وملحن في توثيق محبته لوطنه، مفاجئاً الجميع بأنه موسيقي بالأساس، إذ درس الموسيقى في أثناء إقامته في بيروت مقتبل عمره، وأنه شعره الأخّاذ بأفكاره المتقدمة، هو تفسير لرؤاه الموسيقية وخيالاته التي تعيش بين أوتار عوده.
في السنوات الأربع الأخيرة، التي توسطتها المسرحية الغنائية "معلقاتنا امتداد أمجادنا"، كان حضور بن مساعد كشاعر وكملحن، حقيقياً باسمه وإبداعاته وتفاعله مع ما يقدم في الساحة الفنية عبر صفحاته في منصات التواصل الاجتماعي، ما أثمر عن تعاونات هامة مع أنغام في أربعة أعمال متجددة، ومع حسين الجسمي وأحلام وعبد المجيد عبدالله، كما جدد التعاون مع ماجد المهندس في "ميني ألبوم شاطي بحر"، وأربع أغنيات في ألبوم أميمة طالب "الساعة كم؟"، والأغنية الرئيسة في ألبوم أحلام "العناق الأخير".
من تواجد في حفل "ليلة تكريم عبد الرحمن بن مساعد وصادق الشاعر"، أدرك أنه عاش لخمس ساعات، في ذاكرة الأغنية الخليجية، فالأعمال التي سمعها الجمهور أرّخت لتاريخ من الفن لا يستهان بأفكاره المتجددة، الكلمات والموسيقى والأصوات مختارة بعناية، كما المسرح الذي لونت جدرانه بأشعار بن مساعد، بأصوات كبار الفنانين.
بادِرة هيئة الترفيه في المملكة العربية السعودية، كانت محط تقدير الحضور البارز للأمراء والشيوخ والفنانين وكبار المدعوين والجمهور، الذي ملأ مدرجات المسرح الذي تقدر سعته بـ22 ألف شخص، وقد جاؤوا كرمى للأمير الشاعر عبد الرحمن بن مساعد من أقاصي الأرض.
كل شيء كان معداً، ليكون على قدر الحدث، حدث تعميد الأمير عبد الرحمن بن مساعد شاعراً وملحناً، بأن يقبل بتسليط الأضواء عليه هذه المرة، وألا يتوارى بتواضعه خلف المطربين الذين نقلوا أحاسيسه ومشاعره ورؤاه المعجونة فكراً وموسيقى للناس، فمن حق الناس أن يعيشوا إبداع بن مساعد وأن يعايشوه.
في سيرة بن مساعد، خمس أمسيات شعرية وديوان يضم أعماله الكاملة، لكن حتى تكتمل السيرة، ينتظر الجمهور جهداً أكبر يُبذل، بأن يوثق هذا التاريخ الذي يعيش في ذاكرة الجمهور، لينتقل من هناك إلى أرشيف المكتبة الموسيقية العربية، عبر متحف يُخلّد الاسم والفكرة والإبداع.