في عالم السينما العربية، تبرز الفنانة الراحلة فاتن حمامة كإحدى أبرز الرموز الفنية التي لم تكتفِ بالإبداع على الشاشة، بل امتد تأثيرها إلى تغيير المفاهيم الاجتماعية والقانونية من خلال أعمالها.
هي ليست مجرد ممثلة موهوبة، بل أيقونة ثقافية وإنسانية أسهمت في ترسيخ دور المرأة كعنصر محوري في الفن والمجتمع، وبفضل مسيرتها الزاخرة بالإبداع والتميز، استطاعت أن تحجز لنفسها مكانة فريدة في قلوب محبيها عبر الأجيال.
ولدت فاتن حمامة في 27 مايو 1931 بحي عابدين في القاهرة، لكنها قُيدت رسميًا في مدينة السنبلاوين بمحافظة الدقهلية.
وبدأت موهبتها في الظهور منذ طفولتها المبكرة، عندما أخذها والدها لمشاهدة فيلم من بطولة آسيا داغر، لتشعر وكأن التصفيق الموجه للممثلين كان لها.
هذا الشعور ألهمها ليصبح الحلم حقيقيًا، حيث فازت في مسابقة "أجمل طفلة في مصر"، ما دفع والدها لإرسال صورتها إلى المخرج محمد كريم.
رآها محمد كريم موهبة فريدة، وأشركها في فيلم "يوم سعيد" عام 1940 أمام الموسيقار محمد عبد الوهاب، وهي لم تتجاوز التاسعة من عمرها، لتبدأ بذلك مسيرة فنية استثنائية لم تعرف الانقطاع.
مع بداية الأربعينيات، قدمت فاتن حمامة أدوار الفتاة البريئة، لكنها سرعان ما تحولت إلى تقديم شخصيات واقعية تعكس قضايا المجتمع في الخمسينيات.
فيلم "الأستاذة فاطمة" عام 1952، الذي جسدت فيه طالبة حقوق تدافع عن قضايا المساواة، كان بداية لمرحلة جديدة في مسيرتها الفنية.
ثم جاء فيلم "صراع في الوادي" عام 1954، ليؤكد قدرتها على تجسيد شخصيات تطرح قضايا مثل الفقر والعدالة الاجتماعية، مقدمة بذلك دورًا رئيسيًا في بزوغ تيار الواقعية في السينما المصرية.
قدمت فاتن حمامة مجموعة من الأعمال التي شكلت علامات بارزة في تاريخ السينما المصرية والعربية. من أبرزها فيلم دعاء الكروان (1959) المقتبس عن رواية طه حسين، والذي يعد من أهم الأعمال التي ناقشت قضايا المرأة بعمق وجرأة. كما قدمت فيلم بين الأطلال (1959) الذي حقق نجاحًا كبيرًا على المستوى الجماهيري والنقدي.
وتعاونت مع كبار المخرجين مثل يوسف شاهين، صلاح أبو سيف، وعز الدين ذو الفقار، وشاركت في أعمال مثل "لك يوم يا ظالم" (1952)، الذي يُعد من أبرز أفلام الواقعية الجديدة. ونالت أفلامها العديد من الجوائز الدولية، واختير العديد منها ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية.
عرفت حياتها الشخصية محطات متعددة، ففي عام 1947، تزوجت من المخرج عز الدين ذو الفقار، وأنشأ الثنائي شركة إنتاج قدما من خلالها عدة أفلام ناجحة، إلا أن زواجهما انتهى بالطلاق عام 1954.
لاحقًا، تزوجت من الفنان العالمي عمر الشريف، الذي اعتنق الإسلام من أجلها، واستمر زواجهما حتى عام 1974، ليشكل هذا الزواج أحد أبرز القصص الرومانسية في الوسط الفني.
وفي سنواتها الأخيرة، وجدت الاستقرار مع طبيب الأشعة محمد عبد الوهاب، حيث عاشت معه حياة هادئة حتى وفاتها.
بعد سنوات من الغياب، عادت فاتن حمامة في عام 2000 من خلال المسلسل التلفزيوني وجه القمر، الذي ناقش قضايا اجتماعية وسياسية هامة، أبرزها الانتفاضة الفلسطينية.
وأثار المسلسل جدلًا إعلاميًا كبيرًا؛ بسبب تدخلها في تفاصيل العمل، وفقًا للمؤلفة ماجدة خير الله. ومع ذلك، حقق نجاحًا كبيرًا، ونالت عنه جائزة أفضل ممثلة، مما أثبت أن حضورها الفني لا يزال قويًا رغم مرور الزمن.
وقدمت فاتن حمامة فيلم "أريد حلا"، وأسهمت من خلاله في تغيير القوانين، وهو أول فيلم في مصـر عـن الخلع، وذلك من خلال المشهد الذي دار بين فاتن حمامة ووزير العدل، عندما اشتكت للوزير، وقالت له "إن الرسول جاءت له زوجة ثابت بن قيس، وقالت لا أعترض عليه في خلق أو ديـن، وإنما لا أطيقه بغضًا"، فقال ردي عليه حديقته، وكانت مهرها ـ وأمر الرسول بتطليقها.
في 17 يناير 2015، رحلت فاتن حمامة عن عمر يناهز 83 عامًا إثر أزمة صحية مفاجئة.
وكان لوفاتها وقع كبير على الأوساط الفنية والثقافية في العالم العربي، حيث فقدت مصر والعالم العربي رمزًا من رموز الإبداع الفني والإنساني، وقد شُيعت جنازتها في موكب مهيب حضره محبوها من مختلف الأجيال، في مشهد جسّد مكانتها في قلوب المصريين والعرب.
على مدار مسيرتها الفنية، نالت فاتن حمامة أوسمة وجوائز رفيعة، منها وسام الأرز من لبنان ووسام الكفاءة الفكرية من المغرب.
إرثها الفني يتجاوز حدود السينما ليشمل دورها في تغيير الصورة النمطية للمرأة المصرية، حيث قدمت نموذجًا مشرفًا للمرأة القوية والمبدعة، وستظل أعمالها خالدة، وشخصيتها مصدر إلهام للأجيال القادمة، لتبقى سيدة الشاشة العربية رمزًا لا يُنسى للإبداع والريادة.