في ذكرى رحيلها، تظل "الشحرورة" صباح، رمزًا للفن الذي لا يغيب، واسمًا يضيء في سماء الإبداع العربي.
"الشحرورة"، التي غنت للحب والفرح والحياة، لم تكن مجرد فنانة عابرة، بل ظاهرة فنية استثنائية خطّت بصوتها الجبلي وأعمالها الخالدة مسيرة ملهمة امتدت لعقود. من وادي شحرور إلى كبرى مسارح العالم، صنعت صباح إرثًا فنيًا تجاوز الحدود والزمان، لتبقى ذكراها حيّة في وجدان محبيها وأجيال تتعلم من شغفها وسحرها الفني.
تحل اليوم الثلاثاء 26 نوفمبر/ تشرين الثاني، ذكرى رحيل واحدة من أعظم رموز الفن في العالم العربي، "الشحرورة" صباح أو جانيت جرجس فغالي، التي غادرت عالمنا العام 2014 عن عمر ناهز 87 عامًا، بعد أن أضاءت سماء الفن العربي بصوتها الساحر وشخصيتها المتفردة. صباح لم تكن مجرد فنانة عادية، بل أيقونة جسدت البهجة، وأثرت بمسيرتها المتنوعة آلاف القلوب، تاركة خلفها إرثًا فنيًا يزداد بريقه مع مرور السنين.
وُلدت صباح يوم 10 نوفمبر 1927، في قرية وادي شحرور اللبنانية، ونشأت في كنف أسرة متواضعة. منذ صغرها، لفتت الأنظار بصوتها العذب الذي أسر القلوب. كانت البداية الحقيقية لصباح عندما اكتشفتها المنتجة السينمائية آسيا داغر، التي قدمتها للسينما المصرية العام 1945 في فيلم "القلب له واحد"، ورغم أن عمرها لم يتجاوز 18 عامًا، إلا أن حضورها الفني وصوتها الجبلي الفريد جعلها تحجز مكانتها سريعًا في قلوب الجماهير، كما تعاونت مع كبار الملحنين، مثل: رياض السنباطي، لتطوير أسلوبها الغنائي.
عرفت صباح بحياتها العاطفية المثيرة للجدل، حيث تزوجت تسع مرات من شخصيات بارزة في الفن والمجتمع. كان أول أزواجها نجيب شماس، والد ابنها صباح شماس، ثم توالت زيجاتها لتشمل أسماء لامعة، مثل: رشدي أباظة، ويوسف شعبان. وعلى الرغم من أن زيجاتها كانت محط أنظار الصحافة والإعلام، إلا أن صباح لم تتردد يومًا في التعبير عن تجاربها بجرأة، مشيرة إلى أن بعض أزواجها حاولوا استغلال شهرتها وثروتها، لكنها ظلت ترى الحب تجربة ملهمة أثرت في حياتها وفنها.
امتدت مسيرة صباح لأكثر من ستة عقود، قدمت خلالها إرثًا فنيًا لا يُضاهى. شاركت في أكثر من 87 فيلمًا مصريًا ولبنانيًا، و27 مسرحية، وأدت أكثر من 3500 أغنية. كانت أول فنانة عربية تغني على مسارح عالمية، مثل: الأولمبيا في باريس، كارنيغي هول في نيويورك، وألبرت هول في لندن. واستطاعت أن تضع الأغنية اللبنانية على الخارطة العالمية بأغنيات شهيرة مثل: "يا هويدلك".
قدمت صباح سلسلة من المسرحيات الغنائية بالتعاون مع الأخوين رحباني، من بينها: "موسم العز"، و"دواليب الهوا". وكانت هذه الأعمال بمثابة بوابة لترسيخ الأغنية اللبنانية بمفرداتها وإيقاعاتها الفريدة؛ ما ساهم في تعزيز حضور الثقافة اللبنانية على الساحة الفنية الدولية.
عندما حانت لحظة وداع صباح في 26 نوفمبر 2014، أرادت أن يكون رحيلها احتفالًا بالحياة التي طالما غنت لها. وبوصيتها، ودعها محبوها بجنازة مهيبة جمعت بين الأغاني والدموع، حيث ارتفعت أصوات أغانيها في وداع فريد من نوعه، عكس شخصيتها المحبة للحياة حتى اللحظة الأخيرة.
ولم يكن رحيل صباح نهاية لأسطورتها، بل بداية لاستمرار إرثها الفني الذي يتوارثه عشاقها جيلًا بعد جيل. صوتها العذب، وأغانيها الخالدة، وشخصيتها الملهمة ستبقى حاضرة في الذاكرة الفنية العربية، لتظل الشحرورة رمزًا للفن والحياة.