بعد مشوار طويل مع أعمال البيئة الشامية أو التي يفضل تسميتها بـ"أعمال البيئة الشعبية"، يخوض المخرج مؤمن الملّا هذا العام تجربة إخراجية من نوع مختلف مع المسلسل الاجتماعي الإنساني "أغمض عينيك"، والذي يحـصد تفاعلاً كبيراً من الجمهور منذ بداية العرض لما يحمله من حكاية إنسانية وجدانية.
موقع "فوشيا" التقى مخرج مسلسل "أغمض عينيك" ومنتجه مؤمن الملا.. وكان الحوار الآتي:
بداية أخبرنا كيف ترصد أصداء العمل وإلى أي مدى تراها إيجابية؟
نرصد أصداء العمل على ثلاثة مستويات؛ الأول هو نِسَب المشاهَدة ونتابعها مع الشاشات والمنصات التي تعرض العمل، ومسلسل "أغمض عينيك" إيجابي للغاية ويفوق التوقعات.
أما المستوى الثاني فهو تفاعل الجمهور مع العمل وشخصياته على وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات، وعبر حسابات نجوم المسلـسل على "السوشال ميديا".
وتابع: الأصداء كذلك أكثر من رائعة على هذا المستوى، وهو أمر يمكن لجميع جمهور السوشال ميديا أن يلمـسه بنفسه؛ إذ بات "أغمض عينيك" بحسـب وصف الجمهور بمثابة العودة إلى الزمن الجميل والواقعي والحقيقي في الدراما السورية.
أما المستوى الثالث فهو النُقّاد، و"أنا شخصياً لم أقرأ أو أسمع رأياً سلبياً على الإطلاق، بل على العكس، آراء النقاد إلى الآن إيجابية سواءً من حيث أداء الممثلين أو من حيث قصة العمل وأحداثه وحبكته الدرامية، أو الرسائل الأخلاقية والاجتماعية والوجدانية التي يحملها، وهو ما يعكس الرسالة الحقيقية التي يجب على الدراما أن تحملها وتقدمها في كل المواسم على مدار العام، وخاصة خلال شهر رمضان الكريم".
لم يسبق أن تم تناول اضطراب طيف التوحد في الدراما بهذا الشمول، ما الرسائل التي أردتم إيصالها من خلال العمل؟
"أغمض عينيك" وإن كان يتناول اضطراب طيف التوحد بشكل أساسي، غير أنه ليس عملاً مكرّساً حول التوحد، بل هو "حدّوتة" اجتماعية معاصرة مليئة بالخطوط الدرامية الغنية والشخصيات المختلفة، وتحمل بين أحداثها معاناة الناس وآلامهم من جهة ونجاحاتهم وآمالهم من جهة أخرى.
لذا فإن "أغمض عينيك" أول دراما عربية تتناول مسألة اضطراب طيف التوحد على نحو علمي وأكاديمي ضـمن سياق درامي متكامل وعبر خط زمني متّصل ومرتبط بشكل وثيق مع أحداث العمل ومتقاطع مع شخصياته، ابتداءً من المشهد الأول في الحلقة الأولى وحتى المشهد الأخير من الحلقة الأخيرة.
رسالة العمل هي رسالة وجدانية بالمقام الأول، فاضطراب طيف التوحد ينعكس على صعيد التواصل الحسي بين المُشخّصين به من جهة وبين العالم الخارجي المحيط بهم من جهة أخرى. ولكن في حقيقة الأمر هناك مشـكلة في التواصل نعيشها اليوم جميعاً في مجتمعاتنا. تقبُّل الآخر وعدم إطلاق الأحكام المسبقة هي الرسالة الأخلاقية للعمل، في موازاة العلاقات الإنسانية بين الأهل والأبناء، والاضطرابات النفسية والسلوكية التي نعاني منها جميعاً بدرجات متفاوتة، والتي تلقي بظلالها على علاقتنا بأولادنا وعلاقاتنا بالآخرين.
والأهم هو الجانب الإنساني الذي يميزنا كبشر، والرسالة الأخلاقية والوجدانية التي يقدمها العمل من خلال علاقة الأستاذ مؤنس بالطفل جود. جميع تلك الرسائل تُشكل البنية الدرامية للمسلسل في موازاة الطرح الأساسي لاضطراب طيف التوحد وكيف يمكن إدراج المصابين به في المجتمع منذ طفولتهم وصولاً إلى دراستهم الجامعية ودخولهم معترك الحياة المهنية بنجاح.
العمل إنساني بحت في ظل انتشار موضة أعمال الأكشن والإثارة.. ما الذي أغراك لخوض هذه التجربة المختلفة عن السائد؟ ألم تكن التجربة أشبه بمغامرة؟
سعيتُ إلى إعداد وبناء هذه التجربة حيث عملتُ مع فريقي على هذا النص لأكثر من عام ونصف العام، بدءاً من الدراسة والتحضيرات، مروراً بصناعة القصة والكتابة والسيناريو، والدراسة العلمية والنفسية الموسعة بإشراف أخصائيين، وصولاً إلى البناء الدرامي للنص والبناء النفسي للشخصيات.
لذا وبالعودة إلى سؤالك، لا أعتبر الأمر مغامرة على الإطلاق، فقد تعمّدنا أن نقدم دراما اجتماعية تشبهنا وتشبه واقعنا وأن نطرح مقاربة لحياتنا اليومية الحقيقية بتجاربها وآلامها وآمالها ودموعها وضحكاتها. الأكشن والإثارة لوحدهما لا تمثلا واقعنا اليومي وإنْ كانتا قد شغلتا جزءاً كبيراً منه خلال فترة الحرب، ولكن المشكلة أن دراما الحرب تحوّلت إلى واقع درامي جديد فرض نفسه على المتلقّي رغم انتهاء الحرب، وإنْ كانت تداعياتها طبعاً ما زالت حاضرة.
برأيي، آن الأوان للعودة بالدراما إلى الواقع الحياتي المُعاش، مع الحرص على إعادة دمج الرسائل الأخلاقية والاجتماعية والوجدانية بالنصوص الدرامية.
يجمع العمل ثلة من النجوم السوريين ببطولة جماعية أخبرنا عن اختيار الأسماء وكيف تصف التجربة معهم.
اعتمدنا على "الكاستينغ" (تجارب الأداء) بالنسبة للعديد من الشخصيات وأبرزها شخصية جود الطفل (زيد بيروتي)، وشخصية جود الشاب (ورد عجيب) الذي يؤدي أول دور له في الدراما بعد تخرجه من المعهد العالي للفنون المسرحية، لذا كان الاختيار في منتهى الحساسية والدقة.
من جهة أخرى، فإن بعض الشخصيات تستدعيك أثناء تحضيرك للنص وبمجرد البدء بالقراءة، كشخصية "أم رجا" مثلاً (العملاقة منى واصف) التي لم أتخيّل أحداً غيرها للدور.
بالنسبة لي كمخرج وكمنتج فقد سبق أن تعاملت مع الشخصيات الرئيسة في المسلسل ضمن أعمال سابقة، وأنا طبعاً أعرف جيداً مقدار الطاقة الكبيرة والموهبة والإمكانيات والأدوات التي يمتلكونها.
شخصيات "أغمض عينيك" بمجملها غير تقليدية، فهي بالإضافة إلى كونها شخصيات مركّبة من الناحية الدرامية فهي كذلك غير نمطية من حيث البناء النفسي. لذا تطلّب اختيار الشخصيات دراسة معمقة، ونأمل أن النتائج كانت مُرضية، وهو ما نلمسه اليوم من خلال متابعة آراء الجمهور والنقاد على حدٍّ سواء.
عبد المنعم عمايري وأمل عرفة في غنى عن التعريف طبعاً، وأعتقد أن "أغمض عينيك" من خلال شخصيتَي مؤنس وحياة كشف عن أبعاد جديدة في إمكانياتهما وطاقاتهما الهائلة. الأمر كذلك بالنسبة للممثل القدير فايز قزق والمبدع أحمد الأحمد وجميع الفريق الرائع للعمل.
إلى أي مدى تطلّب العمل اللجوء إلى أخصائيين والرجوع إلى حالات على أرض الواقع، لا سيما وأنه يحمل خصوصية بشخصيتَي جود وأم سلام (وفاء موصللي)؟
كما أشرتُ سابقاً فإن التحضير للعمل استغرق حوالي 18 شهراً، تخللها استشارة أطباء ومعالجين واختصاصيين نفسيين، وذلك في موازاة كتابة العمل وأثناء رسم المعالم الرئيسة لشخصية جود في مرحلة الطفولة والشباب، وكذلك شخصية "أم سلام" التي تعاني من اضطراب نفسي قد لا يظهر بشكل واضح بالنسبة لكل من يتعامل معها، وإن كان أثره الجانبي حاضراً في تكوّن شخصية ابنتها.
ردود أفعال هاتين الشخصيتين وتعاملهما مع محيطهما وصراعاتهما والتفاصيل المتعلقة بحركاتهما الجسدية وملابسهما ومفرداتهما.. كل تلك العناصر عملنا عليها بحرص مع المتخصصين. وعلى الرغم من أننا لا نقدم عملاً توثيقياً حول حالة اضطراب طيف التوحد الذي يعاني منه "جود" أو الاضطراب النفسي الذي تعاني منه "أم سلام"، غير أننا حرصنا على تقديم شخصيات درامية ذات أبعاد حقيقية تعبر عن حالات واقعية حاضرة في مجتمعاتنا.
العمل اجتماعي يسير بأحداث تصاعدية بهدوء. هل سيحمل مفاجآت في الحلقات القادمة؟
العمل مستوحى من مجتمعنا وهو مرآة لحياتنا وللشخوص الذين نعيش بينهم. لذا فليس هناك هدوء مطلق، كما أنه لن يكون هناك أكشن متواصل على طول الدرب، فالعمل يتبع رتم الحياة الطبيعية لكل الناس. وكما شهدنا تصاعداً في الحبكة الدرامية عدة مرات خلال النصف الأول من المسلسل، فإن النصف الثاني سيكون غنياً بأحداث متلاحقة تناسب تطور الشخصيات مع مرور الوقت وظهور شخصيات أخرى، مع بروز خطوط درامية جديدة بعد خروج "حياة" من السجن، وسعيها لإثبات براءتها أمام ابنها.
لن أحرق الأحداث على المشاهدين، وأنصحكم بالاستعداد لجرعة مضاعفة من الأحداث الوجدانية المتلاحقة، حيث سنشهد أكثر من ذروة درامية.
ما جديدك على المستوى الدرامي بعد "أغمض عينيك؟ وهل سنشهد استمراراً لك في الدراما المعاصرة أم عودة إلى البيئة الشامية؟
لقد صنع "الأخوين ملا" إرثاً من الدراما الشعبية كما كنتُ أسميها مع أخي الراحل بسام -رحمه الله-، ولم نكن نؤيّد مصطلح دراما البيئة الشامية كما يصفها البعض، وذلك بسبب الفانتازيا التي اعتمدناها في صناعة وسرد أحداث دراما البيئة الشعبية الشامية التي قدمناها وأحبها الناس وشكّلت حالة من المتابعة تحوّلت إلى ظاهرة درامية في العالم العربي، سواءً في سلسلة "باب الحارة" أو "الزعيم"، أو "حمام شامي"، أو "سوق الحرير" بجزأيه.. وغيرها.
اليوم "أغمض عينيك" هو بمثابة بداية مرحلة جديدة لي، إنتاجياً وإخراجياً، أخوضها مع الدراما الاجتماعية المعاصرة. لا أعني طبعاً أنني طلّقتُ الدراما الشعبية إن جاز التعبير، فأنا جاهز للعودة إليها حال توفرت العناصر الرئيسة التي أسعى إليها وأهمها القيم الوجدانية والرسائل الاجتماعية والأخلاقية. وبالمناسبة تلك العناصر الثلاثة كانت سبباً رئيساً من أسباب نجاح "باب الحارة" على سبيل المثال، وما تركه من أثرٍ عند الناس التي اشتاقت لحدّوتة تستحضر القيم الأخلاقية والاجتماعية والوجدانية.
اليوم اعتبر أنني أقدم "مشروعاً" درامياً وليس مجرد مسلسل ناجح أو متميز. هذا المشروع الذي أعمل عليه مع فريقي هدفه نقل الدراما السورية إلى الواقعية الاجتماعية المعاصرة، بعيداً عن دراما الحرب ومفرزاتها ومفرداتها وأدواتها وعناصرها التي تتمحور حول الأكشن الذي تُبنى حوله القصة برمّتها، وتكريس المجرمين كنماذج يُقتدى بها، ومشاهد العنف الجسدي واللفظي غير المبرريْن، والخيانة لأجل الخيانة، والإثارة المفتعلة، وحتمية وجود مثلث المال والسلطة والجنس. لذا فإن هذا المشروع الذي بدأنا به مع "أغمض عينيك" نعتزم أن نواصل تقديمه، وكلنا ثقة بأن محبة الناس وثقتهم ومتابعتهم ونقدهم هو الوقود الحقيقي لاستمرارنا في هذا المشروع.