في حي هجره أهله بحثًا عن الأمان، بقي "معتز" متمسكًا بأحلامه بكل ما أوتي من إصرار، يلاحق خيوط الأمل الشحيحة بأنه قادر على الاحتفاظ بمنزله الذي أفنى عمره ليحصل عليه، مصرًا على رفض فكرة النزوح حتى المشهد الأخير، حيث تنتصر إرادة الحياة في عيني "هالة".
من البيوت التي هجرها أصحابها يحصل معتز "سامر المصري" خلال مغامراته اليومية على الطعام والماء، ليحضرهما إلى عائلته المكونة من "هالة" التي تقوم بدورها الفنانة كندة علوش، و"زينة" التي تقوم بدورها الطفلة هالة زين، ونرى معتز وهو يبذل جهدًا مضاعفًا للاحتفاظ بروح معنوية مرتفعة بغاية إقناع زوجته وابنته بأنه قادر على حمايتهما ورعايتهما إلى أن تنتهي الحرب، فيستمر بالاحتفاظ بتلك الابتسامة العذبة لأب بسيط حريص على رعاية عائلته والاهتمام بأدق التفاصيل حتى في أحلك الظروف.
يتعرّض البيت للقصف، فيسارع "معتز" وعائلته إلى الشارع، ونراهم يضحكون أنهم على قيد الحياة وهم في خضم هذا الدمار المحيط بهم، يعيدهم "معتز" إلى المنزل، ويسارع إلى تفقد البيت الذي أفنى عمره للحصول عليه، مرددًا أنه ميكانيكي محترف قادر على إعادة الحياة إلى أكثر السيارات دمارًا، فكيف لا يمكنه فعل الأمر نفسه مع بيته، حتى وإن كانت معظم أسقف البيت وجدرانه قد تعرضت للدمار، إلا أن غرفة الجلوس والأسرّة ما تزال صالحة للاستعمال برأيه، لهذا يباشر تغطية جدرانه بالشراشف الملونة ويثبتها بالمسامير، خاصة بعد اكتشافه أن ثمة عائلة أخرى بقيت في الحي، وهم جيرانهم في مبنى آخر.
الفتحة التي تركها القصف على سقف غرفة "زينة" كانت استعارة تأخذنا إلى عالم الأحلام، هذه الفتحة التي فتحت الطريق أمام ابن الجيران "عامر" الذي يقوم بدوره الممثل الشاب نزار العاني، فيمد الحبل لزينة لتصعد للمرة الأولى إلى سطح المبنى، هناك حيث يشاركها القصص، والأخبار، ويحضر لها العالم من خلال تلك المعدات التي تركها له الفريق الإعلامي قبل أن يغادر الحي.
تقرر العائلة الأخيرة "أهل عامر" مغادرة الحي، فيبدأ الغليان يسيطر على كيان هالة الصامتة معظم الوقت، فالجميع يحذّرها بأن عليهم المغادرة قبل دخول الجيش، لكن معتز ما زال يرفض فكرة النزوح وكأنه عارٌ لا يطيق تحمّله، لكن الخوف وحده هو ما يدفع "هالة" خارج إرادة "معتز"، عندما ترى أنه قد يقبل بتزويج ابنته الصغيرة المتبقية من أحد المقاتلين، فتحمل الكيس الذي كانت مشغولة بجمع أغراضه، وتصطحب ابنتها وتغادر المنزل بحثًا عن المعبر.
بأسلوب رومانسي حالم تتساقط أغراض "هالة" على الطريق، حذاؤها الأحمر الذي لم ترتده، معطف الفرو، وأغراض كانت تتشوق لارتدائها عندما تنتهي الحرب، لكنها كانت عبئًا ثقيلاً على الطريق، لهذا بدأت تسقط أمام الرغبة بالحياة، تلك التي تتألق بفرح أمام ظهور "عامر" الذي كان يبحث عن "هالة" وابنتها ليجدهما مستعينًا بتصوير الحي بطائرة الدرون، يوصلهما عبر نفق إلى الطرف الآخر، ويحصل على المساعدة من قبل أحد المقاتلين ليوصلهما إلى بر الأمان، هنا يظهر "معتز" راكضًا خلف السيارة، معلنًا، أخيرًا، أنه سيرافقهم إلى أي مكان يقصدونه، فالبيت هو العائلة لا الحجارة.
لعل المربك في الفيلم هو تلك الطريقة في تصوير انطباعات الشخصيات وكأنها انفصلت عن الواقع، حيث تتعاطى معه بأسلوب مفاجئ، بعيد تمامًا عن أي منظور سياسي، يجعلنا نشعر وكأن مخرجة الفيلم "سؤدد كعدان" أرادت أن تضيف ألوانًا مشرقة على تلك الخلفية القاتمة، فترسم ابتسامة على طريقتها السريالية لتهب حياة جديدة لكل تلك البيوت التي فقدت أهلها، وبقيت محتفظة بيومياتهم عالقة على جدرانها المحطمة.
باختصار يمكن القول، إن فيلم "نزوح" الذي عرض في مهرجان الشارقة السينمائي في اليوم الثاني، وحاز العديد من الجوائز والمشاركات في مهرجانات عالمية عدة، يعد حكاية سورية تختزل وضع السواد الأعظم من السوريين، تلك الابتسامة التي تقف في وجه الموت، وتصّر على مراوغة الحياة رغم كل ما حصل وما يحصل.