نحن نملكُ الكثير من الذكريات التراكمية في حياتنا وتبقى منقوشة في داخلنا ونحن إليها، وفجأة نستذكرها وتطفو على السطح، وتفرض نفسها علينا متى ما شاءت، فقد تكون أحيانًا نورًا ملهمًا نستضيء به لأيامنا القادمة، وإما ظلامًا يؤلمنا ويُحطّم ذاتنا ولا يهبُنا الراحة التي هي مرادنا.
ولعلّ من أبرز هذه الذكريات، هي "ذكريات المدرسة" التي تستوقفنا ونُعيد تفاصيلها بين الحين والآخر، سواءً في مخيلتنا أم عند الحديث مع الآخرين.
تقولُ الاختصاصية التربوية الدكتورة أمل بورشك، "نستدعي الذكريات الجميلة، ونبتعدُ عن المؤلمة قدر الإمكان، ويحدث هذا بسرعة تفوق سرعة البحث عن المعلومات في الإنترنت، وأن سرعة انتشار مواقع التواصل الاجتماعي في العالم، ما هي إلا دليل قاطع على الحنين الذي يتملكنا للتواصل مع ذكرياتنا المدرسية وشخوصها، والذين كانوا جزءًا من تجاربنا التي عايشناها".
ومن هنا، لا بد أن تَعي الأم أهمية بناء ذكريات طفلها وتتقن بناءها، وتكمل بناء شخصية طفلها من خلالها لأن الذكريات تنعش النفس وتحييها مثل قطرات الندى التي ترطب بتلات الزهرة، كما أن الذكريات المؤلمة تُكدّر صفونا وصفو من حولنا، لذا كوني حذرةً في بناء ذكريات أبنائك، فهم يُسجّلون كل صغيرة وكبيرة لك، وتتشكّل القيم والأخلاق لديهم من خلال هذا النسيج الذكرياتي الطويل للطفل.
لقد أظهرت نتائج الدراسات أن الشعور بالحنين للماضي يُعزّز من الإحساس بالاستمرارية الذاتية عن طريق زيادة الإحساس بالترابط الاجتماعي، لأن الذكريات غالبًا ما تضم أحباءنا، ونمو مواقع التواصل الاجتماعي في العصر الحالي ما هي إلا دليل لبناء الحاضر على قوة الماضي.
صفات الذكريات
تُوضّح الاختصاصية بورشك: يبني العقل والقلب معًا المشاعر التراكمية، فما أن نقلب الصور أو نأكل وجبة أو نسمع قصة أو معزوفة يتولد لدينا شعور طبيعي بالحنين والعودة للذكريات في كل لحظة من حياتنا، وهذه استجابة مناعية نفسية تحدث بعفوية عندما تواجهنا بعض عقبات الحياة، فاستذكار صور الماضي يقودنا إلى رحلة مع الذات والإبحار في أعماق النفس، وإلا لما احتفظنا بمقتنيات تذكرنا بلحظات عشناها من الماضي.
ويحتفظ العقل بالذكريات بشكل تلقائي، ويتمسّك بها ليحافظ عليها من الضياع، فهي تمنحنا الثقة والقوة والسعادة ونعيش على أمل أن نستعيد بعضًا من تلك اللحظات التي تجمعنا بالأحبة.
ويراودنا شعور بالعودة للماضي لأن النفس البشرية تهوى البساطة وهو شعور نبيل يُخالج النفس في زمن الوحشة، كما تُعيننا على الهروب من الحاضر ونجد فيها صدقًا أكثر ووضوحًا في الحياة ومن ذكريات الماضي نبني المستقبل، فهي جزء مهم من بناء وتشكل شخصياتنا وتستخدمها الأم في نقل تجاربها لأبنائها لتُسهم في ترقية فكرهم وتوجيههم وإخراجهم من مشاكلهم التي يعيشون فيها.
أمّا فيما يتعلّق بفوائد الذكريات المدرسية، فهي تمنحنا القوة والدافعية لنصنع ذاتنا وتزيد من ثقتنا فننقل هذا لأبنائنا باستحضار القصص الجميلة من ذاكرتنا، وتمنح الأم والطفل القدرة على التعبير والكتابة والتحرّر من الضغوط من حولهما فهي لا حدود لها زمنيًا أو مكانيًا مجرّد استذكار صور من الماضي، كما تخلق أيضًا التحدي لدى الطفل عد استذكار قدرتنا على تجاوز الذكريات المؤلمة وكيف استمررنا بتحقيق أهدافنا وانتصرنا على ما مررنا به ولم يكن سهلًا مع أننا عديمو الخبرة والتجربة أكثر مما ينبغي ومن هنا نحرص على توعية أبنائنا.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإنها تثير التفكير الناقد لدى الطفل بمقارناته المتعدّدة والتي يعقدها بين الحاضر والماضي، والذكريات تسهل هذه المقارنات بأي شيء بطريقة التعليم وبالأثاث المدرسي، وطريقة اللعب وفنون التعليم والتكنولوجيا والأنشطة المتعددة، كما تساعدنا على تصحيح الأخطاء في حياة أبنائنا والخروج بالحكمة المبنية على التجربة فنطوّر من طريقة تربية أبنائنا لنعدَّهم للمستقبل.
وكلما حيينا أكثر وابتعدنا عن الذكريات، يزداد شوقنا إليها وبقوة تدعونا إلى استذكارها وهذا الشوق سوف ينتقل لطفلك ويتشوّق للاستماع إليها فيكون متنفسًا لك ولطفلك ومخرجًا فكريًا للراحة من ضغوط الحياة، ويكسر الحواجز بينكما ويشعركما بالتقارب وهنا ترتسم الابتسامة على وجهيكما، فتتأثر حالتكما المزاجية وصحتكما النفسية وترتفع معنوياتكما وتتلذذان بلحظات معًا تشعران خلالها بالحيوية، وهذا الحنين له سحره على النفس وأثره في التغيير على جوهر شخصياتنا فيمنحُكما الحيوية والنشاط.