كانت عينايَ تبحثان عن صدى أغنية أسمهان الخالدة "ليالي الأنس في فيينا"، التي زارتها النجمة الراحلة بخيالها، دون أنْ تراها بعينيها. عند وصولي إلى هذه المدينة العريقة، المليئة بالتفاصيل التي تملأ القلب برومانسيتها، وتاريخها الغنيّ بكلّ أشكال الحضارة والفنون.
كانت كلمات الأغنية الخالدة تتردّد في أذني، فيما عيناي تبحثان عن معالمها وأُنسها.
أما المناسبة، فقد كانت رحلة نظّمها "مكتب السياحة النمساوي" لعدد من الصحفيين من الإمارات، والمملكة العربية السعودية.
بدأتْ الرحلة بوصولنا إلى فندق "بارك حياة فيينا" الذي تمّ افتتاحه عام 2014، لكنه كان قبل ذلك مقراً لـ"بنك النمسا"، وهو مبنى عمره نحو 103 سنوات، مزيّن بمنحوتات إغريقية، تعطيه طابع الفخامة والعراقة.
تصميم الفندق، يدمج بين الأصالة والمعاصرة، بتناغم فنيّ ساحر، تحكي كلّ زاوية فيه حكاية تاريخية عن هذه الدولة، التي كانت من أبرز إمبراطوريات أوروبا.
تحتوى غرف الفندق الـ143، على أكثر التقنيّات التكنولوجية عصرية، لكنّها مطعّمة بذلك الطابع الكلاسيكي الأنيق، الذي يجعل من يقطنه، يشعر وكأنّه يعيش في حقبة زمنية طاعنة في القدم.
كان التصميم المعماري للفندق، هو نموذج واحد من بين مئات المباني، التي تشكّل هوية فيينا، وتعطيها نكهة مميّزة.
وكأيّ مدينة أوروبية، كان المقهى المحطّة الأولى في رحلة استكشاف المدينة، ومعالمها الأثرية والتاريخية.
وأبرز ما يلفتُ النّظر في الشوارع الضيقة، التي تنتشر على جوانبها الكنائس والكاتدرائيات، كاتدرائية القديس ستيفان، التي يعتبرها السّكان مركزاً للمدينة، بمبناها الذي يتميّز بالطراز القوطي، وأحجارها متعدّدة الألوان من الخارج. أمّا من الداخل فهي مليئة بالأثاث العتيق، والأيقونات المذهّبة.
وقد تعرّضت هذه الكتدرائية لحريق كبير عام 1258، التهم جزءاً كبيراً من بُنيتها الأساسية، وحتى هذه اللحظة، يتمّ تنظيف أحجار الكنيسة من الخارج، فأكثر من 30% منها ما زال يعلوه الرّماد الأسود، الذي خلفه الحريق.
وبين أهمّ المعالم السياحية، التي تعكس عراقة المكان، والطبيعة السياحية، مدينة ملاهي "براتر"، التي تتوسطها عجلة "فيريس" ضخمة، تتيح لراكبيها رؤية بانورامية للعاصمة النمساوية.
ويبلغ عمر هذه المحطّة الترفيهية ما يقارب الـ 130 عاماً، وتعتبر من أهمّ معالم فيينا، وتمتدّ على مساحة شاسعة، مزروعة بالأشجار الخضراء، وفيها عدد من مطاعم الوجبات السريعة، والمقاهي البسيطة.
المتاحف في فيينا قصة بحدّ ذاتها، ولا تكتمل فصولها، إلا بزيارة واحد من تلك المتاحف، التي تعطي للمدينة طابعها المميّز، أهمها متحف "سيسي"، وهي إليزابيث، أمبراطورة النمسا، وملكة المجر القرينة، والتي اشتهرتْ بجمالها الأخّاذ واهتمامها (إلى حدّ الهوس) بصحّتها ورشاقتها.
يتضمّن هذا المتحف الفريد من نوعه، معظم مقتنيات "سيسي"، منذ ولادتها وحتى وفاتها؛ ففيه فساتينها الباهظة، ومجوهراتها الثمينة، وأدواتها الرياضية، وغرفة نومها، ومقطورة عربتها، وأغراضها الشخصية، ولوحاتها الباهظة، وصورها الشخصية، التي تجعلك تعيش الحياة التي نعمتْ بها الإمبراطورة في تلك الحقبة.
أما الصّرح الأهم في المدينة، فهو قصر شونبرون، أكبر قصور النمسا، ومكان إقامة العائلة الإمبراطورية الصيفي، والذي يتمّ الدخول إليه عبر ساحة ضخمة، توفّر لك نظرة شاملة للمبنى الضخم من بعيد.
يضمّ القصر، 1441 غرفة، من ضمنها الغرف الأميرية الأصلية، التي تعكس روحاً فنية أخّاذة، فترى الأسقف المرسومة يدوياً، تحكي قصص المعارك والسّلام. كما ترى الأثاث المخمليّ الفاخر، الذي يتميّز بحوافه الذهبية، وخشبه الباهظ، ولونه الخمريّ.
كل قطعة في القصر، تروي تفاصيل حياة كلّ فرد عاش فيه، منهم ماريا تاريزا، الإمبراطورة الأكثر نفوذاً في أوروبا، وزوجها فرانسيس الأول، وأبناؤهما، ولاحقاً عاش في القصر، الإمبراطورة إليزابيث وزوجها فرانس يوزف الأول، وأبناؤهما.
خلف القصر، حديقة ضخمة لا تخلو من التماثيل المنحوته بحرفيّة عالية، والأشجار المعمرة، والزهور الملوّنة التي تنفثُ عبيراً خاصاً، في أيام الربيع الأولى.
كما ويضمّ القصر أقدم حديقة حيوانات في فنائه الخلفي، كانت مُلك الامبراطور فرانسيس الأول، زوج الإمبراطورة ماريا تاريزا، جمع فيها عدداً من الحيوانات التي أحبها.
وسيلة التنقّل بين هذه المعالم التاريخية والسياحية، هي عربات فياكر، وتجدها في كل مكان بالمدينة، وهي عربات تجرّها الخيول، تأخذك في جولة رومانسية بشوارع المدينة، وأزقّتها بكلّ هدوء.
فبين الليالي التي غنّتها أسمهان، والليالي التي قضيناها في فيينا، عِشنا الذكرى بكلّ ما فيها من سحر، واستمتعنا بجولة، ستظلّ قصّة نرويها كلما ردّدنا "ليالي الأنس في فيينا".